لما حكى عن أهْل الجاهِليَّة إقدامهم على الحُكْم في دين اللَّه بغير دَلِيل- حكى عُذْرَهُم في كلِّ ما يُقْدِمُون عليه من الكُفْرِيَّات ، فيقولون : لَو شَاء الله مِنَّا ألا نَكْفُر ، لمَنَعَنَا عن هذا الكُفْر ، وحيث لم يَمْنَعْنَا عنه ، ثبت أنه مُرِيدٌ لذلك ، وإذا أراده مِنَّا ، امتنع مِنَّا تركُه ، فكُنَّا مَعْذُورين فيه .
واعلم أن المُعْتَزِلة اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على مَذْهَبِهم من سبعة أوجه{[15510]} :
أحدها : أنه -تعالى- حَكَى عن الكُفَّار صَرِيح قول المُجَبرة ، وهو قولهم : " لَوْ شَاء اللَّه مِنّا ألاَّ نُشْرِك ، لم نُشْرِك " ، وإنَّمَا حَكَاهُ عنهم في مَعْرِض الذَّمِّ والقبح ، فوجب كوْن هذا المَذْهَب مذمُوماً باطِلاً .
وثانيها : أنه - تبارك وتعالى- قال بَعْدَه : " كَذَّب " وفيه قراءتان : التَّخفيف والتثقيل .
أما قراءة التخفيف : فهي تَصْرِيح بأنَّهم قد كَذَبُوا في ذلك القَوْل ، وذلك يَدُلُّ على أن قول المُجبِّرة في هذه المسْألة كذبٌ .
وأمَّا قِرَاءة التَّشْديد : فلا يمكن حَمْلُها على أن القَوْم استوجَبُوا الذَّمَّ بسبب أنَّهُم كذَّبُوا هذا المَذْهِب ؛ لأنا لو حَمَلْنا الآية عليه ، لكان هذا المعنى ضِدّاً للمعْنَى الذي يدُلُّ عليه قراءة " كَذَبَ " بالتَّخْفِيف ، فتصير إحدى القراءَتَيْن ضِدَّ الأخْرى ، وإذا بَطَل ذلك ، وجب حَمْلُه على أن المُرَاد منه : على أن كُلَّ من كذَّب نَبِيّاً من الأنْبِيَاء في الزَّمَان المتقدَّم ، فإنما كذَّبه بهذا الطَّريق ؛ لأنه يَقُول : " الكل بِمَشِيئَة الله ، فهذا الذي أنا عَلَيْه من الكُفْرِ إنما حَصَل بمشِيئَة الله -تعالى- ، فلم يَمْنَعْنِي منه " وإذا حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه ، صارت القِرَاءة بالتَّشْدِيد مؤكِّدة للقِرَاءَة بالتَّخْفيف ، فيصير مجمُوع القِرَاءَتَيْن دالاً على إبْطَال قَوْل المُجَبّرة .
وثالثها : قوله -تبارك وتعالى- بعده : { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } وذلك يدُلُّ على أنَّهم ساتوجبوا الوَعِيد من اللَّهِ ؛ بذِهَابِهم إلى هذا الوَجْه .
ورابعها : قوله - تعالى- بعده : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } ، وهذا اسْتِفْهَامٌ على وجه الإنْكَار ، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا القائل بهذا القَوْل لَيْس لَهُ فِيه حُجَّة ، فدلّ على فَسَادِه ؛ لأن الحقَّ على القَوْل به دَلِيل .
وخامسها : قوله -تعالى- بعده : " إنْ يَتَّبعُونَ إلاَّ الظَّنَّ " مع أنه -تعالى- ذم الظّنَّ بقوله -تعالى- { إنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] ونظائره .
وسادسها : قوله : { وَإِنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ } ، والخَرْص أكبر أنواع الكَذِب ، قال -تعالى- : { قُتِلَ الخرّاصون } [ الذاريات : 10 ] .
وسابعها : قوله -تعالى- بعده : { قُلْ فَلِلَّهِ الحُجّة البالغة } وتقديره : أنَّهُم احتجوا في دَفْع دَعْوى الأنْبِيَاء على أنْفُسِهم بأن قَالُوا : كل ما حَصَلَ فَهُو بمشِيئَةِ اللَّه -تعالى- ، وإذا شَاءَ اللَّه مِنَّا ذلك ، فكَيْف يمكننا تَرْكُهُ ؟ وإذا كُنَّا عاجِزِين عن تَرْكه ، فكيف يَأمُرُنا بترْكِهِ ؟ وهل في وُسْعِنا وطاقَتِنا أن نأتي بِفِعْل على خلاف مَشِيئَة اللَّه - تعالى- ، فهذا هو حُجَّة الكُفَّارِ على الأنْبِيَاء ، فقال -تعالى- : { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } وذلك من وجهين{[15511]} :
الأول : أنه -تعالى- أعْطَاكُم عُقُولاً كامِلَة ، وأفْهَاماً وافيةً ، وآذَاناً سامِعَةً ، وعيوناً بَاصِرَةً ، وأقدَرَكُم على الخَيْر والشَرِّ ، وأزال الأعْذَار والمَوانِع بالكُلِّيَّة عنكم ، فإن شِئْتُم ذهبتم إلى الخَيْرَات ، وإن شِئْتُم ذهبتم إلى عَمَلِ المَعاصِي والمنْكَرَاتِ ، وهذه القُدْرةِ والمُكْنَة معلُومة الثُّبُوت بالضَّرُورَة ، وزَوَال المَوانِع والعَوائِق معلوم الثُّبُوت أيضاً بالضَّرُورة ، وإذا كان الأمْر كذلك ، كان ادّعَاؤُكم أنّكم عَاجِزُون عن الإيمان والطَّاعة دَعْوى بَاطِلة ، فَثَبَت بما ذَكَرْنا أنه لَيْس لكم على اللَّه حُجَّة ، بل لله الحجَّة البَالِغَة عليكم .
الوجه الثاني : أنكم تَقُولون : لو كَانَت أفْعَالُنا واقِعة على خلاف مشيئَة الله - تعالى ، لكنَّا قد غَلَبْنَا الله وقَهْرَنَاه ، وأتينا بالفِعْل عَلَى مُضادَّتِه ، وذلك يُوجِب كونه عَاجِزاً ضَعِيفاً ، وذلك يَقْدَح في كونه إلهاً ، فأجاب الله -تبارك وتعالى- عنه : بأن العَجْز والضَّغعْف إنما يَلْزَم إذا لم يَكُن قَادِراً [ على حمْلِهِم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجاء ، وأنا قَادِرٌ ]{[15512]} على ذلك ، وهو المُرَادُ من قوله : " فَلَوْ شاء لهداكم أجْمَعِين " ، إلا أني لا أحْمِلكم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجَاءِ ؛ لأن ذلك يُبْطِل الحِكْمَة المطْلُوبة من التَّكْلِيف ، فثب بهذا البَيَان أن الَّذِي يَقُولُونه من أنَّا لو أتَيْنَا بَعمَل على خِلاف مَشِيئَة الله -تعالى- ، فإنه يَلْزَم منه كَوْنه -تعالى- عاجزاً ضَعِيفاً ، كلام باطل .
قال ابن الخطيب{[15513]} : والجواب المعْتمَد في هذا الباب أن نَقُول : إن هذه السُّورة من ألوها إلى آخِرِها تدلُّ على صِحَّة قولنا ومذهبنا ونَقَلْنَا في كل آيَةٍ ما يَذْكُرُونه من التَّأوِيلاَت ، وأجَبْنَا عنها بأجْوبة واضِحَةٍ قويَّةٍ مؤكَّدة بالدّلائل العَقْلِية القَاطِعَة .
وإذا ثبت هذا ؛ فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم ، لوقع التّناقض الصّريح في كتاب الله – تعالى- فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه .
وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : إنه -تبارك وتعالى- حكى عن القَوم بأنَّهم قَالُوا : " لَوْ شَاءَ اللَّه ما أشْرَكْنَا " ثم ذكر عَقِيبَه : " كذلك كذَّب الذين من قَبْلِهم " فهذا يدلُّ على أن القَوْم قالوا : لمَّا كان الكُلُّ بمشِيئَة اللَّه وتقديره ، كان التَّكْلِيف عَبَثاً ، فكانت دَعْوى الأنْبِيَاء باطِلة ، ونُبُوّتُهم ورسالَتُهم باطلة ، ثم إن -تبارك وتعالى- بيَّن أن التَّمَسُّك بهذا الطّرِيق في إبْطَال النُّبُوة باطِلٌ ، وذلك لأنَّه إله يَفْعَل ما يشاء ويَحْكُم ما يُريد ، ولا اعتراض لأحد عَلَيْه ، فهو -تبارك وتعالى- يشاء الكُفْر من الكَافِر ، ومع هذا يبْعَثُ إليه الأنْبِيَاء ، ويَأمُرُه بالإيمان ، وورود الأمْر على خِلاف الإرَادة غير مُمْتَنِع .
فالحاصل : أنه-تبارك وتعالى- بيَّن أن هذا الاستدلال فاسدٌ باطلٌ ؛ فإنه لا يَلْزَم من ثُبُوت المشيئة للَّه في كل الأمُور على دَفْع دعْوَة الأنْبِيَاء ، وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلّية ، وجميع الوجوه التي ذكرتموها ، والتقبيح والتهجين عائد إلى تمسّكهم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء فيكون الحاصل : أنَّ هذا الاسْتِدْلال باطِلٌ [ وليس فيه ألْبتَّة ما يدُلُّ على أن القَوْلَ بالمشِيئَة بَاطِلٌ ]{[15514]} .
فإن قالُوا : إن هذا العُذْر إنما يَسْتَقِيم إذا قَرَأنا قوله - تعالى- : " كَذِلك كذَّبَ " بالتَّشْديد ، وأمّا إذا قَرَأنَاه بالتَّخْفِيف ، فإنه يَسْقُط هذا العُذْر بالكُلِّيَّة ، فنقوله : فيه وجهان :
الأول : أنا نمنع صِحَّة هذه القِراءة ؛ والدَّليل عليه أنّا بَينَّا أن هذه السُّورة من أولها إلى آخِرِهَا تدلُّ على قَوْلِنا ، فلو كانت هذه الآية الكريمة دالَّةٌ على قَوْلهم لوقع التَّنَاقُض ، ويَخْرُج القُرْآن عن كَوْنه كلاماً لله -تعالى- ، ويَنْدَفع هذا التَّنَاقُض بألا نَقْبَل هذه القراءة{[15515]} .
والثاني : سلّمنا صِحَّة هذه القراءة ، لكن نَحْمِلُها على أن القَوْم كَذَبُوا في أنه يَلْزَمه من ثُبُوت مَشِيئة اللَّه -تعالى- في كل أفعال العِبَاد ، سُقُوط نُبُوَّة الأنْبِيَاء وبُطْلان دعوتهم ، وإذا حَمَلْنَاه على هذا الوجه ، لم يبق للمُعْتَزِلة تَمَسُّك بهذه الآية .
ومما يُقَوّي ما ذكَرْنَاه : ما رُوِي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- ؛ قيل له بَعْد ذهاب بَصَرِه : ما تقول فيمن يَقُول : لا قَدَر ؟ فقال : إن كان في البَيْت منهم أحَدٌ أتَيْتُ عَلَيه ويلهُ أما يَقُول اللَّه : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] ، { إِنَّا نَحْنُ نُحْيي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُم } [ يس : 12 ] .
وقال ابن عباس : " أول ما خَلَق اللَّه القَلَم ، فقال له : اكتب ، فَجَرَى القَلَم فكتب بما يكُون إلى قيام السَّاعَة " وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " المُكَذِّبُون بالقَدَرِ مَجُوسُ هذِهِ الأمِّةِ " {[15516]} .
قوله : " وَلاَ آبَاؤُنَا " عَطْف على الضَّمِير المَرْفُوع المتَّصِل ، وزعم سيبويه : أن عطف الظَّاهر على المُضْمَر المرْفُوع في الفِعل قبيحٌ ، فلا يَجُوز أن يُقال : " قمت وزيْد " ؛ لأن المَعْطُوف عليه أصْلٌ والعَطْف فَرْع المُضْمَر ، والمُظْهر قويٌّ فجعله فَرْعاً للضَّعِيف لا يَجُوز ، وإذا عُرِف هذا فَنَقُول : إن جَاء الكلامُ في جَانِب الإثْبَاتِ ؛ وجب تَأكيد المُضْمَر فنقول : " أنا وَزيْد " ، وإن جاء في جَانِب النَّفْي قلت : " ما قُمْتُ ولا زَيْد " وإذا ثَبَتَ هذا ؛ فنقول : قوله : { لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } فعطف قوله : " ولا آباؤُنَا " على فَاعِل الضَّمِير في قوله : " ما أشْرَكْنَا " ولم يأتِ هنا بتأكيد بِضَمِير رَفْع مُنْفَصِل ، ولا فَاصِل بين المُتعاطِفَيْن اكتفاء بُوجُود " لا " الزَّائِدة للتَّأكيد فَاصِلة بين حَرْف العَطْفِ والمَعْطُوف ، وهذا هو على قَوَاعِد البَصْرِيِّين ، وأمّا الكُوفِيُّون فلا يَشْتَرِطُون شَيْئاً من ذلك ، وقد تقدَّم إتْقَان هذه المَسْألة .
وفي هذه الآية لم يُؤكِّد الضمير ، وفي آية النَّحْل أكّدَ ؛ فقال تعالى : { مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا } [ النحل : 35 ] . وهناك أيضاً قال : " مِن دُونِه " مَرَّتين ، وهنا قَالَها مرة واحدة ، فقال أبُو حيَّان : " لأن لَفْظ " العِبَادة " يَصِحُّ أن يُنْسَب إلى إفْرَاد اللَّه بها ، وهذا لَيْس بِمُسْتَنْكر ، بل المُسْتَنْكَر عبادة غَيْر اللَّه ، أو شيء مع اللَّه ، فناسب هنا ذِكْر " مِن دُونه " مع العِبَادة ، وأمّا لَفْظ " مَا أشْرَكْنَا " ، فالإشْرَاك يدلُّ على إثْبَات شَرِيكٍ ، فلا يتركَّبُ مع هذا الفِعْل لَفْظ " مِن دُونهِ " لو كان التَّرْكِيب في غَيْر القُرْآن : " ما أشْرَكْنا من دُونه " [ لم يَصِحَّ المَعْنَى .
وأمّا " مِن دُونه " الثَّانية ، فالإشْرَاك يَدُلُّ على تَحْرِيم أشْياء وتحليل أشياء ، فلمْ يَحْتَج إلى لفظ " مِن دُونِهِ " ]{[15517]} وأمّا لفظ العِبَادة فلا يَدُلُّ على تَحْرِيم شَيْءٍ كما يدلُّ عليه لفظ " أشْرَك " فَقُيِّد بقوله : " مِنْ دُونِهِ " ولما حَذَف " مِن دُونِهِ " هنا نَاسب أن يُحْذَف " نَحْن " ليطرد التَّرْكيب في التَخفيف " .
قال شهاب الدِّين{[15518]} : " وفي هذا الكلام نَظَر لايَخْفَى " .
قوله : " مِن شَيْءٍ " " مِنْ " زائدة في المَفْعُول ، أي : ما حَرَّمْنا شَيئاً ، و " من دُونِه " متعلِّق ب " حرّمنا " أي : ما حَرَّمنا من غير إذْنه لَنَا في ذلِك .
قوله : " وكذلك " نعت لِمَصْدر مَحْذُوف ، أي : مثل التَّكْذِيب المُشَار إليه في قوله : " فإن كَذَّبُوك " .
وقُرئ{[15519]} : " كَذَب " بالتَّخْفِيف .
وقوله : " حَتَّى ذَاقُوا " جاء به لامْتِداد التكْذيب ، وقوله : " مِنْ عِلْم " يحتمل أن يَكُون مُبْتَدأ ، و " عِنْدَكم " خبر مُقدَّم ، وأن يكون فَاعِلاً بالظَّرْف ؛ لاعتماده على الاسْتِفْهام ، و " مِنْ " زائِدة على كِلاَ التَّقْدِيريْن .
وقرأ النَّخْعِي{[15520]} وابن وثاب : " إن يتِّبِعُون " بياء الغَيْبَة .
قال ابن عطيَّة{[15521]} وهذه قِرَاءة شاذَّة يُضَعِّفها قوله : " وإنْ أنْتُم إلا تَخْرُصُونَ " يعني : أنه أتى بَعْدَها بالخِطَاب فبعُدت الغَيْبَة ، وقد يُجَاب عنه بأنَّ ذلك من بَابِ الالتِفَات .