وهي مائة وستون وخمس آيات ، وكلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة ، وحروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا .
نزلت ب " مكة " [ المشرفة ]{[1]} جملة ليلا ، معها سبعون ألف ملك ، قد سدّوا الخافقين لهم ، وهل بالتسبيح ، والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم [ وبحمده الكريم ]{[2]} وخرّ ساجدا{[3]} .
وروي عنه مرفوعا " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره " {[4]} .
وقال الكلبي رحمه الله تعالى : عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت سورة الأنعام ب " مكة " إلا قوله : { وما قدروا الله حق قدره } [ الأنعام : 91 ] إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم } [ الأنعام : 151 ] إلى قوله تعالى : " تتقون " {[5]} فهذه الست آيات مدنيات .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما نزلت عليّ سورة من القرآن جملة واحدة غير سورة الأنعام " {[6]} [ وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها ، ولقد بُعث بها إلي مع جبريل عليه السلام ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفها حتى أقرّوها في صدري كما أقرّ ماء في الحوض ، ولقد أعزّني الله بها وإياكم بها عزا لا يذلّنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه .
وعن المنكدر لما نزلت سورة " الأنعام " سبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق " .
قال الأصوليون : وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين ، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الرفعة ]{[7]} .
قَالَ كَعْبُ الأحْبارِ - رضي الله عنه - : هذه الآية [ الكريمة ]{[13029]} أوَّلُ آية في التوراة{[13030]} ، وآخرُ آية في التوراة{[13031]} قوله تعالى :
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }
[ الإسراء : 111 ] الآية الكريمة{[13032]} .
قال ابنُ عَبَّاس{[13033]} - رضي الله عنهما - : فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدِ{[13034]} ، فقال : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ ، فقال : " وقَضَى بَيْنهُمْ بالحقِّ " ، وقيل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
فقوله : " الحمدُ لِلَّهِ " فحمدَ اللَّهُ نَفْسَهُ تعليماً لعباده ، أي : احمدوا اللَّهَ الذي خَلَقَ السماوات والأرْضَ خصهما بالذِّكر ؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقََات فيما يرى العِبَادُ ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد .
واعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقلِ وغيرِ العاقلِ ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله ، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤُ لحُسْنِ شَكْلِهِ ، ولَطَافَةِ خِلْقَتِهِ ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائهِ وصَقَالتِهِ .
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفاعل المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام ، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر ؛ فلأنَّ الحَمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام ، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك .
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ ، وإذا عُرِفَ ذلك ، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ : المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحْصُلُ للفاعل المختار ، فقد يَحْصُلُ لغيره .
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار ، وإنَّما لم يَقُلْ : " الشُّكر لِلَّهِ " لِمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم بسبب إنعام صدر منه ، فيكون المطلوب الأصلي ، وقبول النعمة إليه ، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ .
وقوله : " الحَمْدُ لِلَّهِ " يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ ، لا لخصوص كونه -تعالى- أوْصَلَ النِّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ .
قوله : " الحَمْدُ " لفظٌ مفردٌ محلًّى بالألف واللام ، فيفيد أنَّ هذه الماهية للهِ ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير اللهِ ، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَامِ الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى ، فإن قيل : إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ{[13035]} واجب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على تعليمه ، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلِه ، وشكر المُحْسِن على إحسانه ، قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ " فالجوابُ{[13036]} أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى ؛ لأنَّ صدور الإحسان من [ قلب ]{[13037]} العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد ، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ ، وإلاَّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةٍ أخْرَى ، ولَزِمَ التَّسلسُلُ ، بل حصولها ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى ، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ ، وعند زوالها يَمْتَنِعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى ، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى{[13038]} .
وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى ؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ -تعالى- خَلَقَ أنواع النِّعَمِ ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاَّ اللَّهُ تعالى ، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله ، فلهذا قال : " الحمد لله " .
فصل في بيان قوله : " الحمد لله " بالألف واللام
وإنَّما قال : " الحَمْدُ للَّهِ " ولم يقل : أحْمَدُ اللَّهَ ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب ، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه اللَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارِ معنى الحَمْدِ ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ : أحْمَدُ الله [ تبارك وتعالى ] كان كَاذِباً ، واسْتَحقَّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ ، فإذا قال : الحَمْدُ لله ، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ ، وهذا حقٌّ وصدقٌ ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِهِ ، أو لم يَكُنْ ، وكان الكلام عِبَادَةً شَرِيفةً وطاعةً ، وظَهرَ الفَرْقُ ، واللَّهُ أعلمُ{[13039]} .
هذه الكلمة مذكورة{[13040]} في أوائل خَمْسَةٍ ، أوَّلهَا سورةُ " الفاتحة "
{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين } [ الفاتحة :2 ] .
وثانيها : هذه السورة { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [ الأنعام : 1 ] والأول أعَمُّ ، لأنَّ العالمَ عبارةٌ عن كل موجود سوى اللَّه تعالى .
وقوله : { الْحَمْدُُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } لا يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض ، والظُّلُمَات والنور ، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات ، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة " الفاتحة " .
وثالثها : سورةُ الكَهْفِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ }
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن ، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بِسَبَب بَعْثَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام .
ورابعها : سورة " سبأ " : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [ الآية :1 ] .
وهذا أيضاً تحميدٌ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السماوات والأرضِ ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله : { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وخامسها : سورةُ " فاطر " { الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى :
{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
فإن قيل : ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ ؟ وأيضاً لم قال هَاهُنا : " خَلَق السماوات والأرْضَ " بصيغة فعل الماضي ، وقال في سورة " فاطر " : " الحَمْدُ للَّهِ فاطر السماوات " بصيغة اسم الفاعل ؟ .
فالجواب عن الأول ، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ ، وهو في حقِّ الله -تعالى- عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات ، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد والإبداع ، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم ، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة ، وكونه تعالى رَبًّا ومُرَبياً مُشْتَمِلاً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل .
وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني ، فالحق أن الخَلْقَ عبارة عن التَّقدير ، وهو في حقِّ الله -تعالى- عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ ، والعلم بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ وجوده ، وأمَّا إيجادُ الشيء ، فإنَّه لا يَحْصُل إلاَّ حالَ وجوده{[13041]} .
قوله : " الحَمْدُ للَّهِ " فيه قولان :
الأول : المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ ، وإنَّما جاء على صِفَةِ الخَبَرِ لوجوه :
أحدها : أن قوله : " الحَمْدُ للَّهِ " يفيد تَعْظِيم{[13042]} اللفظ والمعنى ، ولو قال : " احمدوا " لم يحصل مجموع هاتين الفَائدتَيْنِ .
وثانيها : أنه يُفيدُ كونه -تعالى- مُسْتحقّاً للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدَهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ .
وثالثها : أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة فَذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى .
والقول الثاني : أن المراد منه تعليم العِبَادِ ، وهو قولُ أكثره المفسرين .
قوله : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } فيه ثلاث سؤالات{[13043]} :
السؤال الأول : قوله : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } جار مجرى قولك : " جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ " فإن هذا يدلُّ على وجود رَجُلٍ آخر ليس بفقيه ، وإلاَّ لم يكن لِذِكْرِ ذلك فَائِدةٌ ، وكذا هاهنا قوله : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض } يوهم أن هناك إلهاً لم يَخْلُق السماوات والأرض ، وإلاَّ فأيُّ فائدة{[13044]} في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ .
والجواب : أنا بَيَّنَّا أن قوله : " الله " جِارٍ مجرى اسم العلم ، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوَصْفِ التمييز ، بل تعريف كون ذلك المُسَمَّى مَوْصُوفاً بتلك الصِّفَةِ .
مثاله : إذا قلنا : الرَّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ ، فيتناول الأشخاص الكثيرين ، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ الرجال بهذه الصفة .
أمَّا إذا قلنا : زيدٌ العالم ، فلفظُ " زيد " اسم عَلَمٍ ، وهو لا يُفيد إلا{[13045]} هذه الذَّات المُعَيَّنَة ؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَامَ الإشَارَاتِ ، فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية{[13046]} امتنع أنْ يكون المقصودُ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره ، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ " الله " من باب أسماء الأعلام لا جَرَم كان الأمر على ما ذكرناه .
السؤال الثاني : لم قَدَّمَ " السَّمَاء " على " الأرضِ " مع أنَّ ظاهر التنزيل{[13047]} يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ .
فالجواب : أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة ، والأرْض كالمركز ، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ ، ولا يَنْعَكِسُ ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الوَاحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها ، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض ، وعلى قول من قالَ : إنَّ السماوات مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ ، وهو قول قتادَةَ ، فالسُّؤال زائدٌ .
السؤال الثالث : لم ذكر السماء بصيغة الجَمْعِ ، والأرض بصيغة الواحدِ ، مع أنَّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله :
{ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق :12 ] ؟ .
فالجوابُ : أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل ، والأرض مجرى القابل ، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرُ ، وذلك يخلُّ بمصَالِحِ هذا العَالَمِ ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [ هذا ]{[13048]} العالم .
أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول{[13049]} .
قوله{[13050]} : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور } .
" جَعَلَ " هنا تتعدَّى لمفعول واحد ؛ لأنها بمعنى " خَلَقَ " ، هكذا عِبَارةُ النحويين ، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال{[13051]} : " والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير ، وفي الجَعْلُ معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً ، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] ، { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامِ المُتَكَاثِفَةِ ، والنُّور مِنَ النَّارِ " .
وقال الطَّبَرِيُّ{[13052]} : " جَعَلَ " هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام ، كما تقول : " جَعَلْتُ أفعل كذا " .
فكأنه قال : " جَعَلَ إظلامها وإنارتها " ، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان{[13053]} ، ولكونها عند الزمخشري لَيْست بمعنى " خَلَقَ " فسَّرها هُنا بمعنى " أحدث " و " أنشأ " .
وكذا الراغب جعلها بمعنى " أوْجَدَ " .
ثم إنَّ أبَا حيَّان{[13054]} اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً } [ الزخرف :19 ] . فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَة } [ الزخرف :19 ] لا يصحُّ ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً ، وإنما ذكرَ بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى " سمَّى " .
قال شهابُ الدين{[13055]} : ليس المُرَادُ بالتصيير التصيير بالفعل ، بل المُراد التصيير بالقول ، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك ، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وقد ظهر{[13056]} الفرقُ بين{[13057]} تخصيص السماوات والأرض بالخَلْقِ ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما{[13058]} ذكره{[13059]} الزمخشري .
قال أبو العباس المقري : ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى " خلق " قال تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ، وقوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [ فصلت :10 ] ، وقوله :
{ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان :62 ] .
والثاني : بمعنى " بعث " قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً } [ الفرقان :35 ] .
والثالث : بمعنى " قدره " قال تعالى { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } [ الزمر :8 ] وقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً } [ الزخرف :19 ] وقوله تعالى : { أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } [ فصلت : 9 ] أي تقولون .
الرابع : بمعنى " بَيّن " قال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }
[ الزخرف :3 ] أي : بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ .
الخامس : بمعنى " صَيَّرَ " قال تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }
[ الإسراء :46 ] أي : صيرنا ، وقوله { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ }
[ التوبة :19 ] ، وقوله : { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ } [ النمل :61 ] ، وقوله :
{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ }{[13060]} [ يس :8 ] .
فإن قيل{[13061]} : لِم وَحَّد النُّورَ ، وجمعَ الظُّلمَاتِ . فالجواب من وجوه :
أحدها : إنْ قُلْنَا : إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفْرُ ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ ، والباطِلُ كثيرٌ .
وإنْ قٌلنا : إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة ، فالنُّور [ عبارة ]{[13062]} عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية{[13063]} ، ثمَّ إنَّها تقبلُ التَّناقُص قليلاً [ قليلاً ]{[13064]} وتلك المَرَاتِبُ كثيرة ، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ{[13065]} بصيغة الجَمْعِ .
وثانيها{[13066]} : أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ ، وهو النار{[13067]} ، والظُّلُمَاتُ كثيرة ، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ .
وثالثها : أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ ، فعطفت هذه عليها{[13068]} كذلك ، وقَدْ تقَدَّمَ في " البقرة " {[13069]} الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات ، وإفراد الأرض .
فإنْ قيل{[13070]} : لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [ على النور ]{[13071]} في الذكر ؟ .
فالجوابُ : لأنه{[13072]} مُوَافِقٌ في الموجودِ ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور .
قال الوَاقِدِيُّ : كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان ، إلاَّ في هذه الآية ، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ .
وقال الحسنُ : المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان{[13073]} .
ونقل الوَاحِدِيُّ عن ابن عبَّاس معناه .
وقيل : المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُ ، وبالنُّور العِلْمُ .
وقال قتادة : يعني الجَنَّةَ والنَّار{[13074]} .
وقيل : معناها{[13075]} خَلْقُ السماوات والأرض ، وقد جَعَلَ الظلمات والنُّور ؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السماوات والأرضِ .
قال قتادة : خلق الله السماوات قَبْلَ الأرض ، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ ، والجنَّة قبل النَّار{[13076]} .
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِم مِنْ نُورِهِ ، فَمَنْ أصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى ، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ " {[13077]} .
قوله تعالى : { ثمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
" ثُمَّ " هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني ، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ{[13078]} ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ ، وهذه عطفٌ : إمَّا على قوله : " الحمدُ لله " ، وإمَّا على قوله : " خَلَقَ السماوات " {[13079]} .
قال الزمخشري{[13080]} : " فإن قلت فما معنى " ثم " ؟ قلت : استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ ، وكذلك " ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ " استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهُ مُحْييهمْ ، ومُميتُهُمْ وباعثهم " .
وقال ابن عطية{[13081]} : " ثُمَّ " دَالَّةٌ على قُبْحِ فِعْلِ الذين كَفَرُوا ، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ ، وإنْعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره .
قال أبو حيَّان{[13082]} : ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوْبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح ؛ لأنها لم تُوضع{[13083]} لذلك ، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من " ثُمَّ " ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك ، بل " ثمَّ " هنا للمُهْلَةِ في الزَّمَانِ ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [ على جملةٍ اسميةٍ ]{[13084]} يعني على " الحَمْدُ للِّهِ " .
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه{[13085]} أن تكون معطوفةً على " خَلَقَ " [ لأنَّ " خَلَقَ " ]{[13086]} صِلَةٌ ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها ، ولكن ليس ثم رابطٌ{[13087]} يعودُ [ منها ]{[13088]} على الموصول .
ثُمَّ قال : " إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم : " أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري " وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ " .
قال شهابُ الدين{[13089]} : إنَّ الزمخشري إنَّما يريدُ العَطْفَ ب " ثم " لتراخي ما بين الرتبتين ، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد{[13090]} صَرَّحَ به هو ، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط ؟ .
وكيفَ يتخيل{[13091]} كونها لِلمُهْلَة{[13092]} في الزمان كما ذكر أبو حيان{[13093]} .
قوله{[13094]} : " بِربِّهمْ " يجوز أن يتعلَّق ب " كَفَرُوا " ، فيكون " يَعْدلُون " بمعنى يَمِيلُون عنه ، من العُدُولِ ، ولا مفعول له حينئذٍ ، ويجوز أنْ يتعلَّقَ ب " يَعْدِلُون " وقدِّم للفَوَاصِلِ ، وفي " الباء " حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن تكون بمعنى " عن " و " يَعْدلون " مِنَ العدول أي : يعدلون عن ربهم إلى غيره .
والثاني : أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ ، أي : ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ{[13095]} بربِّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً .
وقيل معنى الآية كقول القائل " أنْعَمْتُ عليكم بكذا ، وتَفَضَّلْتُ عليكم بكذا ، ثُم تكفرون نعمتي " .