قوله تعالى : { أََلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيبِ ، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد ، أتْبَعَهُ بما يجري مجرى المَوْعِظةِ ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية .
و " كم " {[13212]} يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً ، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى الاسْتِفْهاميَّةِ في ذلك ، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره ، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ ، ويضعف كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل ؛ لأنَّ البصرية تجري مجراها ، فإن كانت عِلْمِيَّةً ف " كم " وما في حيِّزها سادَّة مسدَّ مفعولين ، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد .
و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص ، فتكون مفعولاً بها ، نَاصِبُهَا " أهْلَكْنا " ، و " مِنْ قَرْنِ " على هذا تمييز لها وأنْ تكون عِبارَةً عن المصدر فتنتصب انتصابه ب " أهْلكْنَا " أي : إهلاكاً ، و " من قرنٍ " على هذا صِفَةٌ لمفعول " أهَلكْنَا " أي : أهلكنا قوماً ، أو فوجاً من القُرُونِ ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ ، و " مِنْ " تبعيضية ، والأولى لابتداء الغاية .
وقال الحُوفي{[13213]} : " من " الثانية بَدَلٌ من " مِنْ " الأولى ، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ ، ويجوز أن تكون " كم " عبارة عن الزَّمَانِ ، فتنتصبُ على الظرف .
قال أبو حيان : تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها .
وجعل أبو البقاء{[13214]} على هذا الوجه " مِنْ قَرْن " هو المفعول به ، و " منْ " مَزيدَةٌ فيه ، وجاز ذلك ؛ لأن الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة ، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت : " كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً " أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً ، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة " مِنْ " لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام ، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي ، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى .
قال شهابُ الدِّين{[13215]} : وجوابه لا يسلم .
و " قَرْن " الجماعة من النَّاسِ وجمعه " قرون " .
وقيل : القَرْنُ مُدَّة من الزمان ، يقال : ثمانون سنةً ، [ ويقال : ستُّون سَنَةً ]{[13216]} ويُقال : أربعون سَنَةً ، ويقال : ثلاثون سَنَةً ، ويقال : مائة سنة ؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني : " تَعِيْشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان ، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [ اعتقاد ]{[13217]} أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه .
وعلى القول الأوَّل : هم القوم المقترنون واشْتِقَاقُهُ من الاقْتِرَانِ ، قاله الواحِدِيُّ{[13218]} - رحمه الله - ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية .
قوله : " مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ " في موضع جرِّ صفة ل " قرن " ، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه .
قاله أبُو البقاء{[13219]} - رضي الله عنه - ، والحوفي رحمه الله . وضعَّفه أبو حيان{[13220]} بأن " من قرن " تمييز ل " كم " ، ف " كم " هي المُحَدَّثُ عنها بالإهلاكِ ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا ؛ إذ " من قرن " يجري مجرى التَّبْيينِ ، ولم يُحَدَّث عنه .
وجوَّز أبو حيَّان{[13221]} - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرٍ ، قال : كأنَّه قيل : ما كان من حَالِهِمْ ؟ فقيل : مَكَّنَّاهم ، وجعله هو الظَّاهر ، وفيه نظرٌ ، فإنَّ النكرة مُفْتِقَرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ } وقوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } [ أن " مكنة في كذا ] أثبته فيها ، ومنه { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [ الأحقاف :26 ] وأما مكنَّا له فمعناه جعل له مكاناً ، ومنه :
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } [ الكهف :84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ }
[ القصص :57 ]{[13222]} .
ومثله " أرضٌ له " أي : جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري{[13223]} - رحمه الله تعالى - وأما أبو حيَّان{[13224]} - رضي الله عنه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيَةُ بينهما ، فإنَّهُ قال : وتعدِّي " مَكَّن " هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [ نحو ]{[13225]}
{ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف :21 ] { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف :84 ] ، { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص :57 ] .
وقال أبُو عُبَيْدَة{[13226]} : " مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم : لغتانِ فصيحتان ، نحو : نَصَحْتُه ، ونَصَحْتُ له " وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ .
قوله : " ما لم نُمكِّنْ لكم " في " ما " هذه خمسة أوجه{[13227]} :
أحدها : أنْ تكون مَوْصُولةً بمعنى " الَّذي " ، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف ، [ والتقديرُ : التمكين الذين لم نُمَكِّنْ لكم ، والعَائِدُ محذوف أي : ]{[13228]} الذي لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ .
الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره : تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لكم ، ذكرهما الحُوفِيُّ رحمه الله تعالى{[13229]} .
وردَّ أبو حيَّان{[13230]} - رحمه الله تعالى - الأوَّلَ بأنَّ " ما " بمعنى " الذي " لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ ، وإن كان " الذي " يقع صِفَة لها ، لو قلت : " ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ " تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ ، لم يَجُزْ ، فإن قلت : " الضَّرْبَ الذي ضربه زيد " جاز .
وَرَدَّ الثاني بأن " ما " النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موصوفها ، لو قلت : " قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا " وأنت تعني : قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ .
الثالث : أن تكون مَفْعُولاً بها ل " مَكَّنَ " على المعنى ، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبُو البقاءِ{[13231]} - رحمه الله- .
قال أبُو حيَّان{[13232]} - رحمه الله- : " هذا تَضْمِينٌ ، والتَّضْمِينُ لا يَنْقَاسُ " .
الرابع : أن تكون " ما " مَصْدريَّةً ، والزَّمَان محذوف ، أي : مُدَّة ما لم نمكِّن لكم ، والمعنى : مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم .
الخامس : أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها ، والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما أيضاً أبو البقاء{[13233]} قال أبو حيان - رحمه الله تعالى - في الأخير : " وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ " {[13234]} .
قال شهاب الدين{[13235]} - رحمه الله تعالى - : ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصٍّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ " شيء " ، فكان يقول : مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم .
والضمير في " يروا " قيل : عائدٌ على المُسْتَهْزِئين ، والخطابُ في " لكم " راجعٌ إليهم أيضاً ، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء ، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً ؟ .
وقال ابن عطيَّة{[13236]} - رحمه الله تعالى - : " والمُخَاطَبَةُ في " لكم " هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً ، كأنه قيل : لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم ، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ ، كأنه قال : يا مُحَمَّدُ قُل لهم : " ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا " الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيحِ كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها ، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة ، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب " انتهى .
ومثاله : " قُلْتُ لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه " .
و " القَرْنُ " يقع على مَعَانٍ كثيرة ، فالقرن{[13237]} : الأمَّةُ من النَّاس ، سُمُّوا بذلك لاقْتِرَانِهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام- : " خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي " {[13238]}
وقال الشاعر [ في ذلك المعنى : ]{[13239]} [ الطويل ]
أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ *** أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ{[13240]}
وقال قَسُّ{[13241]} بنُ سَاعِدَةَ : [ مجزوء الكامل ]
فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِي *** نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ{[13242]}
وقيل : أصله الارتفاعُ ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ .
وقيل : لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض ، ويُجْعَلُ مجتمعاً معه ، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنِ ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً .
وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتِرَاكِ{[13243]} ، أو الحقيقة والمجاز ؟ يُرَجَّح الثَّاني ؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ .
وإذا قُلنا بالراجح ، فإنها الحقيقة{[13244]} ، الظاهر أنه القَوْمُ ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم ، والغَلَبَةُ مُؤذِنَةٌ بالأصَالَةِ غالباً .
وقال ابنُ عطيَّة{[13245]} - رحمه الله تعالى :- القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشياخ وولادَةُ الأطفال ، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين } [ الأنعام :6 ] فجعله مَعْنًى ، وليس بواضح وقيل : القَرْنُ : النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم ، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام : " خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي " وبقوله : [ مجزوء الكامل ]
فِي الذَّاهبين الأوَّلي *** نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ{[13246]}
وبقول القائل في ذلك : [ الطويل ]
إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ *** وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأنْتَ غَرِيبُ{[13247]}
فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع .
ثم اختلف النَّاسُ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان ، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة ، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام : " تَعيشُ قَرْناً " فعاش مائة سَنَةٍ ، وقيل : مائة وعشرون سنة ، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ ، وزرارة بن أبي أوفى .
وقيل : ثمانون نقله أبو صالح{[13248]} عن ابن عبَّاسٍ .
وقيل : سبعون ؛ قاله الفرّاء{[13249]} .
وقيل : ستُّون لقوله عليه السلام : " مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ " {[13250]}
وقيل : أربعُون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلامُ ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : ثلاثون حكاهُ النَّقَّاش عن أبي عُبَيْدة{[13251]} ، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنةً .
وقيل : عشرون سنةً ، وهو رأي الحَسَنِ البصري .
وقيل : ثمانية عشر عاماً{[13252]} .
وقيل : المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان ، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً ، وثلاثمائة سنة ، وألفاً وأكثر وأقلَّ .
ومعنى الآية : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ .
وقال ابن عبَّاسٍ : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوحٍ وعادٍ وثمود{[13253]} .
قوله : { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } يعني المَطَرَ " مِفْعَال " من الدَّرِّ و " مِدْرَاراً " حالٌ من " السماء " إنْ أُريد بها السحاب ، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً .
قال ابنُ عبَّاسٍ : مِدْرَاراً مُتَتَابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ{[13254]} ، وإن أُريدَ بها الماء فكذلك ، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث : " في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ " {[13255]} ويقولون : ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم ، ومنه : [ الوفر ]
إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْمٍ *** رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا{[13256]}
أي : رَعَيْنَا ما ينشأ عنه ، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ ، أي : مَطَر السماء ، ويكون " مِدْرَاراً " حالاً منه .
و " مِدْرَاراً " مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث .
قالوا : وأصله من " دَرِّ اللَّبَن " وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ .
ومنه : " لا دَرَّ دَرُّهُ " في الدُّعَاءِ عليه بقلَّةِ الخير .
وفي المَثَلِ " سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ " {[13257]} وهي مثلُ قولهم : " سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه " {[13258]} و " استدَّرت المِعْزَى " {[13259]} كناية عن طلبها الفَحْلَ .
قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ .
قوله : { وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } إن جعلنا " جَعَلَ " تَصْييريةً{[13260]} كان " تجري " مفعولاً ثانياً ، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً .
و " من تحتهم " يجوز فيه أوجه :
أن يكون متعلّقاً ب " تجري " ، وهو أظهرها ، وأن يكون حالاً ، إمَّا من فاعل " تجري " ، أو من " الأنهار " ، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً ل " جَعَلْنَا " ، و " تجري " على هذا حالٌ من الضمير في الجَارِّ ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ ، ويجوز أن يكون " من تحتهم " حالاً من " الأنْهَار " كما تقدَّم ، و " تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه ، الضَّعْفُ المتقدّمُ{[13261]} .
المُرَادُ من قوله : { وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } كَثْرَةُ البَسَاتيِن ، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ " مكَّة " المشرفة ، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا كفروا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم ، وهذا يوجب الاعتبار .
فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلاَّ أنهم هلكوا إلا أن الإهلاك غير مختصّ بهم ، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أنه يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ ؟ .
فالجوابُ : ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ ، والهلاك ، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدِّينَ بالدنيا ؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ من الإيمان ، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن{[13262]} .
فإن قيل : كيف قال : " أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا " مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به عنه ، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة ؟
فالجواب : أنَّ [ أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم ، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار .
فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم ؟
فالجواب : أن ]{[13263]} فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم ، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعمِّرُ بهم بلاده ، كقوله : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس :15 ] .
و " من بعدهم " متعلِّق ب " أنشأنا " .
قال أبو البقاء{[13264]} : ولا يجوز أن يكون حَالاً من " قرن " ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني : أنه لو تأخَّر عن قرن لكان يُتَوَهَّمُ جوازُ كونه صِفَةً له ، فلما قُدِّمَ عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه ؛ لكنه منع ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في " البقرة " عند قوله تعالى : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة :21 ] و " آخرين " صِفَةٌ ل " قَرْن " ؛ لأنه اسم جَمْع ك " قوم " و " رهط " ، فلذلك اعْتُبِر معناه ، ومن قال : إنَّهُ الزَّمانُ قدَّرَ مُضَافاً ، أي : أهل قرن آخرين ، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ ، واللَّهُ أعلم .