قوله : وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة .
اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ ، فالله -تعالى- لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه أثْبَتَ دليل [ التوحيد ، ]{[14452]} وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة ، فقال : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حين أنكروا النُّبُوَّةَ والرسالة ، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ . " حَقَّ قَدْرِهِ " منصوب على المَصْدَرِ ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر ، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبُ عليه مَوْصُوفُهُ ، والأصل قدره الحقّ كقولهم : " جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة " .
وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ{[14453]} ، وعيسى الثقفي : " قَدَّروا " بتشديد الدَّال " قدَره " بتحريكها ، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ . قوله : " إذْ قَالُوا " مَنْصُوبٌ ب " قدروا " ، وجعله ابن عطية{[14454]} منصوباً ب " قدره " [ وفي كلام ابن عطية{[14455]} ما يشعر بأنها ]{[14456]} للتعليل ، و " من شيء " مفعول به زيدت فيه " من " لوجود شَرْطَي الزيادة .
قال ابن عبَّاسٍ : ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه{[14457]} .
وروي عنه أيضاً أنه قال : معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير{[14458]} .
وقال أبو العَالِيَةِ{[14459]} : ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ .
وقال الأخْفَشُ{[14460]} : ما عرفوه حَقَّ معرفته ، وحقَّق الواحدي{[14461]} رحمه الله -تعالى- فقال : قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ ، وأراج أن يعلم مقداره يقدره بالضمير قدراً ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ " أي : فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة ، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً : هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ : إنه لا يقدر قَدْرَهُ ، فقوله : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة{[14462]} ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه ، وهو قولهم : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } .
واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ، وتقديره من وُجُوهٍ :
الأول : أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول : إنه -تبارك وتعالى- ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [ تكليفاً أصلاً ]{[14463]} أو يقول : إنه -تبارك وتعالى- كَلَّفَهُمْ ، والأول باطل ؛ لأن ذلك يقتضي أنه -تبارك وتعالى- أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح ، نحو [ شَتْم ]{[14464]} الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - والرسل ، والإعراض عن شُكْرِ الله -تعالى- ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة ، وكل ذلك باطل .
وإن سلم أنه -تعالى- كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [ والنهي فهاهنا لا بُدَّ ]{[14465]} من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ .
فإن قيل لم لا يجوز أن يُقَالَ : العقل كافٍ في إيجاب الموجبات ، واجتناب المقبحات ؟
فالجواب : هَبْ أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيدُ التعريف العَقْلِيّ بالتعريفات المشروعة على ألْسِنَةِ الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- فثبتَ أن كل من مَنَعَ من البعثة والرسالة ، فقد طَعَنَ في حكمة الله -تعالى- وكان ذلك جَهْلاً بصفة الإلهية ، وحينئذ يَصْدُقُ في حقه قوله تبارك وتعالى : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .
والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى : أن من الناس من يقول : إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسلام ؛ لأن يمتنع [ إظهار ]{[14466]} المعجزة على وَفْقِ دَعْوَاهُ تصديقاً له ، والقائلون بهذا القول لهم مَقَامات .
أحدها : أن يقولوا : إنه ليس في الإمْكَانِ خَرْقُ العادات ، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جَرَتْ به العَادَةُ .
والثاني : يسلمون إمكان ذلك ، إلاَّ أنهم يَقُولُونَ : إن بتقدير حُصُولِ هذه الأفعالِ الخَارِقَةِ للعَادَاتِ ، فلا دلالة لها على صِدْقه من الرسالة ، وكلا القولين يوجب القَدْحَ في كمالِ قُدْرةِ الله -تعالى- .
أما الأوَّل وهو أنه ثبت أن الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله ، وإذا كان كذلك كان جِسْمُ القَمَرِ والشمس قَابِلاً لِلتَّمَزُّقِ والتَّفَرُّقِ ، فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وَصْفاً له بالعَجْزِ ، ونُقْصانِ القُدْرةِ ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر اللَّهَ حقَّ قدره .
وإن قلنا : إنه -تعالى- قادر عليه ، وحينئذ لا يمتنع عَقْلاً انْشِقَاقُ القمر ، ولا حصول سائر المعجزات .
وأما المقام الثاني : وهو أن [ حدوث ]{[14467]} هذه الأفعال الخَارقة عند دَعْوَى مُدَّعِي النبوة يَدُلُّ على صِدقِهِ ، فهذا أيضاً ظاهرٌ على ما قدر في كتب الأصولِ ، فثبت أن كُلَّ من أنكر مَكَانَ البعثة والرسالة ، فقد وصف الله تَبَارَكَ وتعالى بالعَجْزِ ونُقْصَانِ القدرة ، فكل من قال ذلك ، فهو ما قَدَرَ اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ .
والوجه الثالث : أنه لما ثبت حُدُوثُ العالم ، فنقول : حدوثه يَدُلُّ على أن إله العالم قَادِرٌ عليم حكيم ، وأن الخَلْقَ كلهم عَبِيدُهُ ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملكُ المُطاع يجب أن يكون له أمر ونهي ، وتكليف على عِبادِهِ ، وأن يكون له وَعْدٌ على الطاعة ، ووعيدٌ على المعصية ، وذلك لا يتم ولا يكمل إلاَّ بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فكل من أنكر ذلك فَقط طَعَنَ في كونه تعالى مَلِكاً مُطَاعاً ، ومن اعتقد ذلك ، فهو ما قدر الله حَقَّ قدره .
في هذه الآية الكريمة [ بَحْثٌ ]{[14468]} صَعْبٌ ، وهو أن يقال : هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } إما أن يقال : إنهم كُفَّار قريش ، أو يقال : إنهم أهْلُ الكتاب من اليهود والنصارى ، فإن كان الأول فكيف يمكن إبْطالُ قولهم بقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } وذلك أن كُفَّار قريش والبراهمة يُنْكِرُونَ رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - فكذلك يُنْكِرُون رسالةَ الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - فكيف يَحْسُنُ إيراد هذا الإلْزَامِ عليهم .
وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل ؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى ، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها ، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية .
واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين ، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود ، وهو المشهور عند الجمهور{[14469]} .
وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ :إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ ، وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ " فضحك القوم فغضب [ مالك ]{[14470]} بن الصيف ثم التفت إلى عمر ، فقال : " مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ " فقال له قومه : ويلك ؟ ما هذا الذي بلغنا عنك ، [ ألَيْسَ ]{[14471]} أن الله أنزل التوارة على مُوسَى ، فَلِمَ قلت : ما أنزل الله على بشر من شيء ؟ فقال مالك بن الصيف : إنه أغْضَبَنِي ، فقلت ذلك فقالوا له : وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق ، فنزعوه عن رياستهم ؛ وجعلوا مكانة كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ{[14472]} .
وقال السُّدِّيُّ : نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء{[14473]} وهو قائل هذه المَقالةِ .
قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتاباً ؟ قال : " نَعَمْ " . قالوا : والله ما أنزل من السماء كتاباً ، فأنزل الله تبارك وتعالى { مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }{[14474]} ؛ إذ قالوا : " مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ " وفي سبب النزول سؤالات :
السؤال الأول : لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [ من الدار ]{[14475]} فغضب الزَّوْجُ ، فقال : إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق ، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا : اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة ، فكذا هاهنا فقوله : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْفِ ، فكان لقوله تعالى : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } في أنه يبغض الحَبْرَ السمين ، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً على هذا المُقَيَّدِ لم يكن قوله : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى } مبطلاً لكلامه .
السؤال الثاني : أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يَهُوديًّا مُتَظَاهراً بذلك ، ومع هذا المَذْهَبِ لا يمكنه أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغَضَبِ المُدْهِشِ للعقل ، أو على سبيل طغيان اللسان ، ومثل هذا الكلام لا يَلِيقُ بالله -تبارك وتعالى- إنزال القرآن الباقي على وجه [ الدهر ]{[14476]} في إبطاله .
والقول الثاني : أن القائل : ما أنزل الله على بشر من شيء من كُفَّار قريش ، وفيه سؤال : هو أن كُفَّارَ قريش كانوا ينكرون نُبُوَّةَ جميع الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام ، فكيف يمكن إلزامهم بِنُبُوَّةِ موسى ، وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكُفَّار قريش ، وإنما يليق باليهود ، وهو قوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُم } وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قَوْلُ من يقول : إن أول الآية خِطَابٌ للكفار ، وآخرها خطاب مع اليهود{[14477]} ، وهذا فاسد ، لأنه يوجب تَفْكِيكَ نَظْمِ الآية ، وفساد تركيبها ، وذلك لا يليق بكلامنا ، فَضْلاً عن كلام ربِّ العالمين ، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول{[14478]} .
أما السؤال الأول : فيمكن دَفْعُهُ بأن كُفَّار قريش كانوا مُخْتَلطينَ باليهود والنصارى ، وكانوا قد سمعوا من الفَريقَيْنِ على سبيل التَّواتُر ظهور المعجزات القاهرة على يَدِ مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - مثل : " انْقِلابِ العَصَى ثُعْبَاناً " و " فَلْقِ البَحْرِ " و " إظْلالِ الجَبَلِ " وغيرها ، والكفار كانوا يَطْعُنون في نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - بِسَببِ أنهم كانوا يَطْلُبُونَ من أمْثالَ هذه المعجزات [ وكانوا ] يقولون : لو جئتنا بأمثال هذه المُعجزات لآمَنَّا بك ، فكان مجموع هذه الكلمات جَارِياً مجرى ما يوجب عليهم الاعْتِرَاض ، والاعتراف بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان الأمر كذلك [ لم يبعد إيراد ]{[14479]} نبوة موسى إلزاماً عليهم في قولهم : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } .
وأما الثاني : فجوابه أن كفار قريش ، وأهل الكتاب لما اشتركوا في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يَبْعُدْ أن يكون الكلامُ بعضه خِطَاباً مع كفار " مكة " وبقيّته خطاباً مع اليهود والنصارى .
دَلَّت هذه الآية الكريمة على أحكام :
منها : أن النَّكِرَةَ في موضع النَّفْي تفيد العموم ، فإن قوله : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } نَكِرَةٌ في موضع النفي ، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } إبْطالاً له وَنَقْضاً عليه ، وكان اسْتِدْلالاً فاسداً .
ومنها : أن النَّقْضَ يقدح في صِحَّةِ الكلام ؛ لأنه -تبارك وتعالى- نَقَضَ قولهم : { مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } بقوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } فلو لم يَدُلُّ النَّقْضُ على فساد الكلام لما كانت هذه الحُجَّةُ مُفِيدَةً لهذا المطلوب{[14480]} .
واعلم أن من يقول : إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة ، لأن اليهود كانوا يقولون : معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أظْهَرُ وأبهر من معجزاتك ، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هاهنا ، ولو كان هذا الفرق [ مقبولاً لسقطت هذه الحجة ، وحيث لا يجوز القول بسقوطها ، علمنا أن النقض ]{[14481]} على الإطلاق مبطل .
قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس } .
أحدهما : قوله : " نوراً " وهو مَنْصُوبٌ على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنه " الهاء " في " به " ، فالعامل فيها " جاء " .
والثاني : أنه " الكتاب " ، فالعامل فيه " أنزل " ، و " للناس " صِفَةٌ ل " هدى " وسمَّاه " نوراً " تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق .
فإن قيل : فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً ، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ .
أحدها : كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَلِيًّا .
والثانية : كونه بحيث يكون سَبَباً لظهور غيره ، فالمراد من كونه " نوراً وهدى " هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ ، فقال : { وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى :52 ] .
قوله : " تَجْعَلُونَهُ " قرأ ابن كثير{[14482]} وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ ، وكذلك " يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً " والباقون{[14483]} بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال ، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ } إلى آخره .
وعلى هذا فيكون في قوله : " وعُلِّمْتُمْ " تأويلان :
أحدهما : أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريق الالْتِفَاتِ .
والثاني : أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَاب } وبين قوله : " قل الله " .
وأما القراءة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله : { وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ } ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي : " وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض ، وهو الاختيار لذلك ، ولأن أكثر القراء عليه " .
قال أبو حيَّان{[14484]} : " ومن قال : إن المنكرين العرب ، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب : تجعلونه قراطيس [ يبدونها ]{[14485]} ، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش ، وآخره خطاباً لليهود " .
قال : " وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل " .
قوله : " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ " : يجوز أن تكون " جعل " بمعنى " صَيَّرَ " وأن تكون بمعنى " ألقى " أي : يضعونه في كَاغدٍ .
وهذه الجملة في محلِّ نصب على الحال ، إما من " الكتاب " وإما من " الهاء " في " به " كما تقدم في " نوراً " .
قوله : " قَرَاطِيس " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على حَذْفِ حرف الجر ، أي : في قراطيس وورق ، فهو شبيه بالظَّرْفِ النهم ، فلذلك تعدَّى إليه الفِعْلُ بنفسه .
والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ .
والثالث : أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس ، وقد تقدم تفسير القراطيس . والجملة من قوله : " تبدونها " في محل نصب صِفَةً ل " قراطيس " وأما " تخفون " فقال أبو البقاء{[14486]} : إنها صفة أيضاً لها ، وقدر ضميراً محذوفاً ، أي : تخفون منها كثيراً .
وأما مكي{[14487]} فقال : " وتخفون " مبتدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب . انتهى .
كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على " قراطيس " منع كونه صِفَةً ، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ ، وهو أولى ، وقد جوَّز الواحدي في " تبدون " أن يكون حالاً من ضمير " الكتاب " من قوله : " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس " على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى ؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها . انتهى .
قوله : " عَلَى أنْ تَجْعَلَ " اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنَّثاً ، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع .
قوله : " وعُلِّمْتُمْ " يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في " يَجْعَلُونه " ، وما عطف مُسْتَانفٌ ، وأن يكون حالاً ، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ ، ومن اشترط " قد " في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا ، أي : وقد علمتم ما لم تعلموا .
والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود ؛ يقول : علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم [ فضيعوه ولم ينتفعوا به .
وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ]{[14488]} .
فإن قيل : إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس ، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب ، فما السبب في أن الله -تبارك وتعالى- حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم ؟
فالجواب : أن الذَّمَّ لم يقع على هذا المعنى فقط ، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس ، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوهُ ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءِ البعض ، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك ، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب ، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه ، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك ، فكذا القول في التَّوْرَاةِ ؟
فالجواب أنا ذكرنا في سورة " البقرة " أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباطلة ، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن{[14489]} .
فإن قيل : هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات ، فكيف قال : " ويخفون كَثِيراً " .
فالجواب أن القوم [ كانوا ]{[14490]} يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [ آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا ]{[14491]} إخفاء الآية الدالة على رجم [ الزاني ]{[14492]} المُحْصَنِ .
قوله : " قل الله " لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أي : قل أنزله ، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ }
والثاني أنه مبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : والله أنزله ، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال ، وذلك أن جملة السؤال اسمية ، فلتكن جملة الجواب كذلك .
ومعنى الآية الكريمة : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت ، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِيمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صاحبه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل معجزات موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون إلا من الله -تعالى- فلما صَارَ هذا المعنى ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِ ، لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله ، ونظيره قوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ } [ الأنعام :19 ] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول : منِ الذي أحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا ، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة ، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول : الله ، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا .
قوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } يجوز أن يكون " فِي خَوْضِهِمْ " متعلقاً ب " ذرهم " ، وأن يتعلق ب " يلعبون " ، وأن يكون حالاً من مفعول " ذَرْهُمْ " وأن يكون حالاً من فاعل " يلعبون " [ فهذه أربعة أوجه ]{[14493]} وأما " يلعبون " فيجوز أن يكون حالاً من مفعول " ذرهم " .
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِز حينئذ أن يكون " في خوضهم " حالاً من مفعول " ذرهم " ، بل يجعله إما متعلقاً ب " ذرهم " ، كما تقدَّم أو ب " يلعبون " ، أو حالاً من فاعله .
ويجوز أن يكون " يلعبون " حالاً من ضمير " خوضهم " وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل ؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله ؛ لأن التقدير : " ذرهم يخوضون لاَعِبينَ " وأن يكون حالاً من الضمير في " خوضهم " إذا جعلناه حالاً ؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ ، فتكون حالاً متدخلة .
معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم ، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ ، ونظيره قوله تعالى : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } [ الشورى :48 ] .
قال بعضهم{[14494]} : هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ ، وهذا بعيدٌ ؛ لأن قوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } مذكور لأجل التهديد ، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة ، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية ، فلم يحصل النَّسْخُ .