سورة الممتحنة مدنية ، وتسمى " الممتحنة " - بكسر الحاء- أي : المختبرة ، وأضيف الفعل إليها مجازا ، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة والكاشفة لما كشفت من عيوب المنافقين .
ومن قال " بفتح الحاء " فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة أبي معيط{[1]} ، قال تعالى :{ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } [ الممتحنة :10 ] .
وهي ثلاث عشرة آية ، وثلاث مائة وثمان وأربعون كلمة ، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } الآية .
وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [ اللائقة بحضرة الله - تعالى - من الوحدانية وغيرها ]{[56133]} ، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات .
قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } هذان مفعولا الاتخاذ ، و «العَدو » لما كان بزنةِ المصادر وقع على الواحد فما فوق ، وأضاف العدو لنفسه تغليظاً في جرمهم{[56134]} .
روى مسلم عن علي - رضي الله عنه - قال : «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : " ائْتُوا روضة «خَاخٍ » فإنَّ بِهَا ظعينةً معها كتابٌ فخذُوهُ مِنْهَا " فانطلقنا تُعادي بنا خيلنَا ، فإذا نحن بالمرأة ، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتُخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل " مكة " يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حاطب ما هذا ؟ فقال : لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش - قال سفيان : يقول : كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها ، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمَا إنَّهُ قَدْ صَدقَكُمْ " ، فقال عمر : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنَّهُ شهد بَدْراً ، ومَا يُدْريك لعلَّ اللَّه اطلع على مَنْ شَهِدَ بَدْراً ، فقال : اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } إلى قوله : { سَوَاءَ السبيل }{[56135]} .
قيل{[56136]} : اسم المرأة سارة من موالي قريش ، وكان في الكتاب : «أما بعد ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له وعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره » .
وقيل : «إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [ المدينة من مكة ورسول الله ]{[56137]} يتجهز لفتح مكة . قيل : كان هذا زمن الحديبية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهاجرةً جئت يا سارة ؟ قالت : لا ، قال : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي - تعني قُتِلُوا يوم بدر - وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : فأيْنَ أنت عَن شَبابِ أهْلِ مكَّة ؟ - وكانت مغنيةً نائحةً قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدرٍ ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وأعطوها ، فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، وقال : أعطيك عشرة دنانير ، وبُرداً على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل " مكَّة " ، وكتب في الكتاب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي ، وفي رواية : عليّاً وعمار بن ياسر ، وفي رواية : عليّاً وعماراً وعمراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد ، وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة " خاخ " ، فإن بها ظعينة ، ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها وخلُّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها ، فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا : أين الكتاب ؟ فحلفت باللَّه ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع ، فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذَّبنا وسلَّ سيفه ، وقال أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّكِ ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها - وفي رواية في حُجزتِهَا - فخلُّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى حاطب ، فقال : هل تعرف هذا الكتاب ؟ قال : نعم ، وذكر الحديث » .
فصل في النهي عن موالاة الكفار{[56138]} :
هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكُفَّار ، وقد تقدم نظيره ، كقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ } [ آل عمران : 28 ] . وقوله : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ } [ المائدة : 51 ] .
روي أن حاطباً لما سمع { يا أيها الذين آمَنُواْ } غشي من الفرح بخطاب الإيمان .
قوله : «تُلقُون » . فيه أربعة أوجه{[56139]} :
أحدها : أنه تفسير لموالاتهم إياهم .
الثاني : أنه استئناف إخبار بذلك ، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب .
الثالث : أنها حال من فاعل «تتَّخذُوا » أي : لا تتخذوا ملقين المودّة .
قال الزمخشري{[56140]} : «فإن قلت : إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له ، فأين الضمير البارز ، وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة ؟ . قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بُدّ من الضمير البارز » ، وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة ، وفيها كلام مكي وغيره .
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً ، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ } ، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف{[56141]} .
قال شهاب الدين{[56142]} : «ولا يلزم ما قال ، لأنه معلوم من القواعد الشرعية ، فلا مفهوم لها ألبتة » .
وقال الفرَّاء : «تلقون » من صلة «أولياء » ، وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات .
قوله : «بِالمَودَّةِ » . في الباء ثلاثة أوجه{[56143]} :
أحدها : أن الباء مزيدة في المفعول به ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } [ الحج : 25 ] .
والثاني : أنها غير مزيدة ، والمفعول محذوف ، ويكون معنى الباء : السببية ، كأنه قيل : تلقون إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم . قاله الزجاج{[56144]} .
الثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه «تلقون » أي : إلقاؤهم بالمودة . نقله الحوفي عن البصريين [ وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين ، إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين ]{[56145]} لا يوافق أصولهم ، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عندهم ، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها ، فإن «إلقاءهم » مبتدأ ، و «بالمَودَّةِ » متعلق به ، والخبر أيضاً محذوف ، وهذا إجحاف{[56146]} .
قال ابن الخطيب{[56147]} : في الآية مباحث .
الأول : اتخاذ العدو أولياء ، كيف يمكن ، والعداوة منافية للمحبة ؟ .
والجواب : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : «أوْلادُنَا أكْبَادُنَا »{[56148]}
الثاني : لم قال : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ } ولم يقل بالعكس ؟ .
والجواب : أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - عليه الصلاة والسلام - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة ، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة ؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين ، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى .
الثالث : قال : «أولياء » ، ولم يقل : ولي العدو أو العدو معرفاً ؟ .
فالجواب : أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد ، فكذلك المعرف بالإضافة .
قال القرطبي{[56149]} : قوله : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } يعني بالظَّاهر ، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : «أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ » ، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده ، وخلوص اعتقاده .
فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين :
قال القرطبي{[56150]} : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين ، وينبه عليهم ، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ، ولم ينو الردة عن الدين .
وإذا قيل : بأنه لا يكون كافراً بذلك فهل يقتل حدًّا أم لا ؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد الحاكم الإمام في ذلك .
وقال عبد الملك : إذا كانت عادته تلك قُتِلَ لأنه جاسوس ، وقد قال مالك : يقتل الجاسوس لإضراره بالمسلمين ، وسعيه بالفساد في الأرض ، ولعل ابن الماجشون إنما أخذ التكرار في هذا ؛ لأن حاطباً أخذ في أول فعله ، فإن كان الجاسوس كافراً ، فقال الأوزاعي : يكون نقضاً لعهده ، وقال : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان .
وقد روي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه : فُرات بن حيَّان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ؟ فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فخلي سبيله ، ثم قال : " إنَّ مِنكُمْ من أكِلُهُ إلى إيمانِهِ ، مِنْهُمْ فُراتُ بنُ حيَّانَ " {[56151]}
قوله : " وقَدْ كَفرُوا " . فيه أوجه{[56152]} :
الثاني : حال من فاعل " تتخذوا " .
الثالث : حال من فاعل " تلقون " ، أي : لا تتولَّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم .
وقرأ العامة : " بما " - بالباء - ، والجحدري وعاصم{[56153]} في رواية : " لما " - باللام - أي : لأجل ما جاءكم من الحق ، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور ، وتقديره : كفروا بالله ورسوله .
قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } .
يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون تفسيراً لكفرهم ، فلا محلَّ لها على هذين ، وأن يكون حالاً من فاعل " كَفَرُوا " .
قوله : " وإيَّاكُمْ " . عطف على " الرَّسُول " وقدّم عليهم تشريفاً له ، وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يجوز أن يقال : يخرجونكم والرسول ، فيجوز : يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن ، وهو ضعيف ، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه ، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله{[56154]} .
وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله } في سورة النساء [ 111 ] .
قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعول له ، وناصبه " يخرجون " أي : يخرجونكم لإيمانكم أو كراهة إيمانكم{[56155]} .
قال القرطبي{[56156]} : { أن تؤمنوا بالله } تعليل ل " يخرجون " والمعنى : يخرجون الرسول ، ويخرجونكم من " مكة " لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله .
قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم{[56157]} .
وقيل : إن الكلام فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي .
وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي ، وابتغاء مرضاتي [ فلا تلقوا إليهم بالمودة .
وقيل : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغاء مَرْضَاتِي } ] {[56158]} شرط وجوابه مقدم ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتَّخذوا عدوي وعدوكم أولياء .
قال أبو حيان{[56159]} : { إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ } جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم «لا تتخذوا » وتقدم ، وهو «لا تتخذوا » عند الكوفيين ومن تابعهم .
قال الزمخشري{[56160]} : و{ إن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق ب «لا تتخذوا » يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، وقول النحويين في مثله : هو جواب شرط ، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى .
يريد : أنه متعلق به من حيث المعنى ، وأما من حيث الإعراب ، فكما قال جمهور النحويين .
قوله : { جِهَاداً فِي سَبِيلِي } { وابتغاء مَرْضَاتِي } يجوز أن ينتصبا على المفعول له ، أي : خرجتم لأجل هذين ، أو على المصدر بفعل مقدر أي : تجاهدون وتبتغون ، أو على أنهما في موضع الحال{[56161]} .
قوله : «تُسِرُّونَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، ولم يذكر الزمخشري{[56162]} غيره ، ويجوز أن يكون حالاً ثانية مما انتصب عنه «تلقون » حالاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من «تلقون » . قاله ابن عطية{[56163]} ، والأشبه أن يكون بدل اشتمال ، لأن إلقاء المودة يكون سرًّا وجهراً ، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء{[56164]} .
قال القرطبي{[56165]} : «تُسِرُّونَ » بدل من «تُلْقُونَ » ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب } [ الفرقان : 68 ، 69 ] .
وأنشد سيبويه{[56166]} : [ الطويل ]
4759 - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا***تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَضرَّمَا{[56167]}
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : أنتم تسرون . قاله ابن عطية{[56168]} ، ولا يخرج عن معنى الاستئناف .
وقال أبو البقاء{[56169]} : «هو توكيد ل " تلقون " بتكرير معناه » .
قال شهاب الدين{[56170]} : «وفيه نظر ، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرًّا وجهراً » .
وتقدم الكلام على الباء في قوله : «بالمودَّة » .
قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ }هذه الجملة حال من فاعل «تُسِرُّونَ » ، أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسراركم ، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي .
و«أعْلَمُ » ، يجوز أن يكون أفعل تفضيل ، وهو الظاهر ، أي : أنا أعلم من كل أحد بما يخفون ، وما يعلنون ، وأن يكون فعلاً مضارعاً .
قاله ابن عطية{[56171]} ، وعُدِّي بالباء ، لأنك تقول : علمت بكذا ، وعلمت كذا فتكون زائدة .
وقيل : وأنا أعلم من كل أحد كما يقال : فلان أعلم وأفضل من غيره{[56172]} . [ فإن قيل : لم قدم العلم بالإخفاء على العلم بالإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس ؟ .
فالجواب{[56173]} هذا بالنسبة إلى علمنا ، لا بالنسبة إلى علمه - تعالى - إذ هما سيّان في علمه تعالى ؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء ، وهو الكفر ، فيكون مقدماً .
فإن قيل : لم لم يقل : بما أسررتم ، ثم وما أعلنتم ، مع أنه أليق بما سبق في قوله : «تُسِرُّونَ ؟ » فالجواب : أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإنَّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله : { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، أي : أخفى من السِّر ]{[56174]} .
قال القرطبي{[56175]} : وهذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ، ونصيحته للرسول صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه ؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبٍّ لحبيب ؛ كما قال : [ الوافر ]
4760 - إذَا ذَهَبَ العِتَابُ فليْسَ وُدٌّ***ويَبْقَى الودُّ مَا بَقِيَ العِتَابُ{[56176]}
والمراد بالمودّة في الآية النصيحة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد{[56177]} .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ } أي : من يسر إليهم ويكاتبهم { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السبيل } أي : أخطأ طريق الهدى{[56178]} .
قوله : «ومَن يفعلهُ » . في الضمير وجهان{[56179]} :
أظهرهما : أنه يعود على الإسرار ؛ لأنه أقرب مذكور .
والثاني : يعود على الاتِّخاذ . قاله ابن عطية{[56180]} .
يجوز أن يكون منصوباً على الظرف ، إن قلنا : ضلَّ قاصر ، وأن يكون مفعولاً به ، إن قلنا : هو متعد{[56181]} .
[ فإن قيل : ما الفائدة في قوله «مِنكُمْ » ، ومن المعلوم أن من فعل هذا ، فقد ضل سواء السبيل ؟
فالجواب{[56182]} : إن كان المراد من قوله : «مِنْكُمْ » هم المؤمنون فظاهر ، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمناً ]{[56183]} .