اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (163)

قوله تعالى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } الآية .

المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم ؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى ، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء :

الأول : المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عليه الصلاة والسلام - .

والثاني : أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا ؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها . ولمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أمياً لم يعلم علماً ، ولم يطالع كتاباً ، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة .

قوله : " عَنِ القَرْيَةِ " لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله " إذْ يَعْدُون " .

وقيل : هو منصوب ب " حَاضرَة " .

قال أبُو البقاء{[16908]} : وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت .

وقدر الزمخشريُّ : المُضاف " أهل " أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرف بدلاً من " أهل " المحذوف فإنَّهُ قال : " إذْ يَعْدُون " بدل من القرية ، والمرادُ بالقرية : أهلُها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت ، وهو من بدل الاشتمال .

قال أبُو حيَّان{[16909]} وهذا لا يجوزُ ؛ لأن " إذْ " من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ ، ولا يدخل عليها حرفُ جر ، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول " عن " عليها ؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ " عن " عليها لم يجز ، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو : يوم إذ كان كذا ، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب " اذكر " فقولُ مَنْ عَجَزَ عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً .

وقال الحوفيُّ : " إذ " متعلقةٌ ب " سَلْهم " .

قال أبُو حيان{[16910]} : وهذا لا يتصوَّر ، لأن " إذْ " لما مضى ، و " سَلْهم " مستقبلٌ ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى ؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين .

وقرأ شهر{[16911]} بن حوشب وأبو نهيك " يَعَدُّون " بفتح العين وتشديد الدَّالِ ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله { لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] والأصل : تَعْتَدوا ، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها .

وقُرئ " يُعِدُّونَ {[16912]} " بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من : أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته ، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد .

فصل

معنى الآية : واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقرية ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } [ البقرة : 196 ] .

قال ابنُ عباس ، وأكثر المفسرين : هي قرية يقال لها : أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطئ البحر{[16913]} .

وقيل : مدين{[16914]} .

وقال الزُّهري : هي طبرية الشَّامِ ، والعرب تسمِّي المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ ، و " يَعْدُون في السَّبتِ " يتجاوزون حد اللَّه فيه ، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه ، والسَّبْتُ : مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا ، إذا تركوا العمل في سبتهم ، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك ، وهو مثل الخرس ، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت ، واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروفُ ، وهو من الرَّاحةِ والقطع ، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات ، وفي الخبر عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ "

قال القرطبي{[16915]} : قال علماؤنا : لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً .

قوله : " إذْ تَأتيهم " العامل فيه " تَعْدون " أي : إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ .

وقال الزمخشريُّ : و " إذ تأتيهم " بدلٌ من " إذ يَعْدُونَ " بدل بعد بدل ، يعني : أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه ، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا .

و " حِيتَان " جمع " حُوت " ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً ، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها ، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ : الحُوتُ .

قوله " شُرَّعاً " حالٌ من " حِيتَانُهُمْ " وشُرَّعٌ : جمعُ شارع .

وقرأ عمر بن عبد العزيز{[16916]} : " يَوْمَ إسباتهم " وهو مصدر " أسبت " إذا دخل في السَّبْت .

وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى{[16917]} بن عمر " لا يَسْبُتُونَ " .

وقرأ عليٌّ والحسنُ{[16918]} وعاصمٌ بخلاف عنه " لا يُسْبِتُونَ " بضم الياء وكسر الباء ، من أسْبَت ، أي : دخل في السبت .

وقُرئ{[16919]} : " يُسْبَتُونَ " بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول ، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن .

قال : أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بأن يَسْبِتُوا ، والعاملُ في : { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ } قوله : " لا تَأتيهمْ " أي : لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب " لا " عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب : الجواز مطلقاً كهذه الآية ، والمنع مطلقاً ، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز .

ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة . من شرع فهو شارع ، ودار شارعة أي : قريبة من الطريق ، ونجوم شارعة أي : دنت من المغيب ، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها .

وقال الضَّحَّاكُ : متتابعة{[16920]} .

فصل

قال ابنُ عباس ومجاهد : إنَّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه ، واختاروا السبت ، فابتلاهم الله به ، وحرم عليهم الصَّيْدَ ، وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها ، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم ، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به{[16921]} .

فقوله { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي لا يَفْعَلُونَ السبت ، يقال : سَبَتَ يَسْبِتُ إذا عظم السبت . والمعنى : يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ ، كما يقال : أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا ، أي : دخلنا في الجمعة ، والظهر ، والشهر .

كما يقال : أصبحنا أي : دخلنا في الصباح .

قوله : " كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ " . ذكر الزجاجُ ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين :

أحدهما : قال الزَّجَّاج{[16922]} : أي : مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم ، فموضع الكاف نصبٌ ب " نَبْلُوهُم " .

قال ابن الأنباري : ذلك إشارةٌ إلى ما بعده ، يريد : نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان ، وينقطع الكلام عند قوله " لا تَأتيهمْ " .

الوجه الثاني : قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون : ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّعاً ، ويكون " نَبْلُوهُم " مستأنفاً .

قال أبو بكر : وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى : { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } والتقدير : ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع ، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ ، أي : لا تأتي مثل ذلك الإتيان .

قوله : " بِمَا كَانُوا " الباءُ سببيةٌ و " ما " مصدريةٌ ، أي : نَبْلُوهم بسبب فسقهم ، ويضعُفُ أن تكون بمعنى " الذي " لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج .

وقد ذكر مكي هنا مسألة مختلفا فيها بين النحاة ، لا تعلق لها بهذا الموضع .

فقال : وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليوم السَّبْتُ ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْف ، وترفع مع سائر الأيام فتقول : اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع .

قال شهابُ الدِّين{[16923]} : هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين ، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع ؛ لأنَّه بمنزلة قولك : اليومُ الأولُ ، اليومُ الثاني . وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ ، قالا : لأنَّ اليوم بمنزلة : الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها : أنه إذا ذُكر " اليوم " مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى .

كأنك قلت : اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية .

فصل

قال المفسِّرُون : وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال : إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا .

وقيل : وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطئ البَحْرِ ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحد ، ففعلوا ذلك زماناً ، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا ، فأخذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } [ الأعراف : 164 ] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّاهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ ، فقسموا القرية بجدارٍ ، للمسلمين باب ، وللمعتدين بابٌ ، ولعنهم داودُ ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأناً ، لعلّ الخمر غلبتهم ، فعلوا الجدار ، فإذا هم قِرَدَةٌ .

فصل

دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلِّل ، وما أشبههما من الحيلِ ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا ؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية ، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى .


[16908]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/278.
[16909]:ينظر: البحر المحيط 4/408.
[16910]:ينظر: البحر المحيط 4/408.
[16911]:ينظر: المحرر الوجيز 2/467، والبحر المحيط 4/408، والدر المصون 3/360.
[16912]:ينظر: الكشاف 2/170، والبحر المحيط 4/408، والدر المصون 3/360.
[16913]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/91) من طريق عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/251) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ.
[16914]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/92) عن ابن عباس وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/251) عن سعيد بن جبير وعزاه لعبد بن حميد.
[16915]:ينظر: تفسير القرطبي 7/194.
[16916]:ينظر: الكشاف 2/170، والمحرر الوجيز 2/468، والبحر المحيط 4/408، والدر المصون 3/360.
[16917]:ينظر: المحرر الوجيز 2/468، والبحر المحيط 4/408، والدر المصون 3/360.
[16918]:ينظر: السابق.
[16919]:ينظر: الكشاف 2/171.
[16920]:ذكره البغوي في تفسيره (2/208).
[16921]:ذكره الرازي في تفسيره (15/31-32).
[16922]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/425.
[16923]:ينظر: الدر المصون 3/361.