اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَهۡوٗا وَلَعِبٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ فَٱلۡيَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوۡمِهِمۡ هَٰذَا وَمَا كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجۡحَدُونَ} (51)

قوله " الَّذِينَ " يجوز أن تكون في محل جر ، وهو الظاهر ، نعتاً أو بدلاً من " الكافرين " ، ويجوز أن تكُون رفعاً أو نصباً على القَطْعِ .

قوله : { اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً } فيه وجهان{[16211]} :

الأول : أنَّهُم اعتَقَدُوا فيه أن يلاعبوا فيه ، وما كانوا فيه مجدين .

والثاني : أنَّهُم اتخذوا اللّهو واللّعب ديناً لأنفسهم ، وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة ، وأخواتها ، والمكاء والتصدية حول البَيْتِ ، وسائر الخصالِ الذّميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهليّة .

قال ابن عباس : " يُريدُ المستهزئين المقتسمين{[16212]} " .

قوله : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } عطف على الصّلة ، وهو مجاز ؛ لأنَّ الحياة لا تغرّ في الحقيقةِ ، بل المرادُ أنَّهُ حصل الغرور عند هذه الحياة الدُّنيا ؛ لأنَّ الإنسان يطمع في طول العُمْرِ ، وحسن العيش ، وكَثْرةِ المَالِ ، وقوَّة الجاهِ ، فتشتدُّ رغبته في هذه الأشياء ، ويصير محجوباً عن طلب الدين غَارِقاً في طلب الدنيا .

قوله : " فالْيَوْم " منصوب بما بعده .

وقوله " كَمَا " نعت لمصدر محذوف ، أي : ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءه أي برتكهم .

و " ما " مصدرية ويجوز أن تكون الكاف للتَّعليل ، أي : تركناهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم .

و " يَوْمِهِمْ " يجوز أن يكون المفعول متّسعاً فيه ، فأضيف المصدر إليه كما يُضَافُ إلى المفعول به ، ويجوزُ أن يكون المفعول محذوفاً ، والإضافة إلى ظرف الحدثِ أي : لقاء العذاب في يومهم .

فصل في معنى " النسيان "

في تفسير هذا النسيان قولان :

الأول : هو التّركُ والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم ، وهذا قول الحسنِ ومجاهدٍ والسُّدِّيِّ{[16213]} والأكثرين{[16214]} .

والثاني : أنَّ المعنى ننساهم أي : نعاملهم معاملة من نسي ، نتركهم في النَّار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا . وبالجملة فسمَّى الله - تعالى - جزاءهم بالنّسيان كقوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] والمراد من هذا النسيان أنه " لاَ يُجِيْبُ دعاءَهُم ولا يَرْحمُ ضَعْفَهُمْ وذُلَّهُمْ " .

قوله : " وَمَا كَانُوا " " ما " مصدرية نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي : وكانوا بآياتنا يجحدون .

وفي الآية لطيف عجيبة وهي أنَّهُ - تعالى - وصفهم بكونهم كافرين ثم بيَّن من حالهم أنَّهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً ، ثم غرتهم الحياة الدُّنيا ثالثاً ، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنَّهُم جحدوا بآيات الله ، وذلك يدل أنَّ حب الدُّنْيَا مبتدأ كل آفة كما قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : " حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيْئَةٍ {[16215]} " ، وقد يؤدي حبُّ الدُّنْيَا إلى الكُفْرِ والضَّلالِ .


[16211]:ينظر: تفسير الرازي 14/77.
[16212]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/510 عن ابن عباس بمعناه.
[16213]:أخرجه الطبري في تفسيره (5/510) عن ابن عباس ومجاهد. وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/167) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.
[16214]:ينظر: تفسير الرازي 14/77.
[16215]:ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة رقم 384 وقال: أخرجه البيهقي في الشعب بإسناد حسن إلى السحن البصري رفعه مرسلا وقد تقدم تخريجه.