أي بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار ، وهذا هو الظَّاهر كقوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [ الحديد : 13 ] .
وقيل : بين الجنَّة والنَّار ، وبه بدأ الزَّمخشريُّ .
فإن قيل : وأي حاجة إلى ضرب هذا السُّورِ بين الجنَّة والنَّار ، وقد ثبت أن الجنَّة فوق والنَّار في أسفل السَّافِلِينَ ؟ .
فالجوابُ : بُعد إحداهما عن الأخر لا يمنعُ أن يحصل بينهما سور وحجاب .
قوله : " وَعَلى الأعْرَافِ " : قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[16169]} : أي : وعلى أعراف الحجاب .
قال القرطبيُّ{[16170]} : أعراف السّور وهي شُرَفُه ، ومنه عُرْفُ الفَرَسِ وعرف الدِّيكِ ، كأَنَّهُ جعل " أل " عوضاً من الإضافة وهو مذهب كوفي ، وتقدَّم تحقيقه .
وجعل بعضهم نفس الأعْرَافِ هي نفس الحِجابِ المتقدم ذكره ، عبر عنه تارةً بالحجاب ، وتارةً بالأعراف .
قال الوَاحِديُّ - ولم يذكر غيره - : " ولذلك عُرِّفَت الأعراف ؛ لأنَّهُ عني بها الحِجَاب " قال ابن عباس .
والأعراف : جمع عُرْف بضمِّ العَيْنِ ، وهو كلُّ مرتفع من أرض وغيرها استعارةً من عُرْف الدّيك ، وعُرْف الفرس .
قال يَحْيَى بْنُ آدَمَ : سألت الكِسَائِيَّ عن واحد الأعراف فسكت ، فقلت : حدثتنا امرأتك عن جَابِرٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن عباس قال : " الأعراف سُورٌ له عرف مثل عرف الدِّيك " فقال : نعم ، وإن واحده عُرْفُ بعيرٍ ، وإن جماعته أعْرَاف ، يا غُلام هات القرطاس كأنَّهُ عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة ، فإنَّهَا مجهولة غالباً .
قال أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]
وَآخَرُونَ عَلَى الأعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا *** فِي جّنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ والخَضِرُ{[16171]}
كُلُّ كِنَازِ لَحْمِهِ نِيَافِ *** كالجَبَلِ المُوفِي عَلَى الأعْرَافِ{[16172]}
فَظَلَّتْ بأعْرَافٍ تَعَادَى كأنَّهَا *** رَمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ{[16173]}
وقال الزَّجَّاجُ ، والحسنُ في أحد قوليه : إن قوله : " وَعَلى الأعْرَافِ " وعلى معرفة أهْل الجَنَّة والنَّار ، كَتَبَةٌ رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنَّار بسيماهم ، للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فَخِذِهِ ثم قال : هم قومٌ جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار ، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا{[16174]} .
قال المهدويُّ : " إنَّهم عدول القِيَامَةِ الذين يَشْهَدُونَ على النَّاس بأعمالهم ، وهم في كُلِّ أمَّةٍ " ، واختار هذا القول النَّحَّاسُ وقال : " هو من أحسن ما قيل فيه ، فهم على السور بين الجنَّةِ والنَّارِ " .
فأمَّا القائلون بالقول الأوَّلِ فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين :
فقيل : هم الأشْرَافُ من أهل الطَّاعَةِ ، وقال أبو مجلز : " هم ملائكة يعرفون أهل الجنَّة وأهل النَّار " ، فقيل له : يقول الله - عز وجل - { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ } ، وتزعم أنَّهُمْ ملائكة ، فقال : " الملائكة ذكور لا إناث " .
وقيل : هم الأنْبِيَاءُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - أجلسهم الله على أعلى ذلك السُّور إظهاراً لشرفهم وعلوّ مرتبتهم .
فإن قيل : هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف : " لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها " ، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء .
فالجوابُ : قالوا : لا يبعد أن يقال : إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر ، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار ، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة ، وأحوال أهل النّار في النَّار ، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ . فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم .
وأمّا قوله : " وهمْ يَطْمَعُونَ " والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةٌ عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] .
وذلك الطمع طمع يقين ، وقال الشَّاعرُ : [ المتقارب ]
وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَه *** قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي{[16175]}
القول الثاني : أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة ]{[16176]} من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً :
أحدها : أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم ، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف ، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار ، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته ، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود ، واختيار الفرّاءِ ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول{[16177]} ، واحتجُّوا على فساده من وجهين :
الأوَّل : قالوا : إن قوله تعالى : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها ، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ ، ثم إنَّهم يدخلون الجنة بمحض التفضل ، لا بسبب الاستحقاقِ .
الثاني : أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [ وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة ، فلا يليق بهم ذلك التشريف ]{[16178]} .
والجواب عن الأوَّل : أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا } خطاب مع أقوام مُعَيَّنِينَ ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنَّة كذلك .
والجوابُ عَنِ الثَّانِي : أنَّا لا نسلّم أنَّهُ تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التَّخصيص بمزيد التَّشْرِيفِ وإنَّمَا أجْلَسَهُم عَلَيْهَا ؛ لأنَّها كالمرتَبَةِ المُتوسِّطَةِ بين الجنَّةِ والنَّارِ وهل النزاع إلاّ في ذلك ؟ !
الوجه الثاني : أنَّهُم أقوامٌ خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدُوا بحبسوا بين الجَنَّةِ {[16179]}والنَّارِ ، وهذا داخل في القول الذي قبله ؛ لأنَّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد .
الثالث : قال عَبْدُ الله بْنُ الحَارثِ{[16180]} : " إنَّهُم مَسَاكِينُ أهْلِ الجَنَّةِ " .
الرابع : قيل : إنَّهُمُ الفُسَّاقُ من أهل الصَّلاة يعفو اللَّه عنهم ويسكنهم في الأعراف{[16181]} .
وأمّا القَوْلُ الثَّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنَّار ، فهذا قول غير بعيد ؛ لأنَّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال ، يشرفون منه على أهل الجَنَّةِ وأهل النَّارِ{[16182]} .
قوله : " يَعْرِفُونَ " في محلِّ رفع نعتاً ل " رِجَال " ، و " كلاًّ " أي : كل فريق من أصْحَابِ الجنَّةِ ، وأصحاب النَّارِ .
قوله : " بِسِيمَاهُمْ " قال ابْنُ عبَّاس : " إنَّ سيما الرجل المسلم من أهل الجَنَّة بياض وجهه{[16183]} . قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] [ وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد أغر محجلا من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم ]{[16184]} . وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة ، وكون عيونهم زرقاً{[16185]} " .
وقيل : إنَّ أصحاب الأعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ المُؤمنينَ في الدنيا بظهور علاماتِ الإيمانِ والطَّاعة عليهم ، ويعرفون الكافرين في الدُّنْيَا أيضاً بظهور علامات الكُفْرِ والفِسْقِ عليهم ، فإذا شَاهَدُوا أولئك الأقوام في مَحْفَلِ القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدُّنْيَا ، وهذا هو المختار ؛ لأنَّهُم لمَّا شاهدوا أهل الجَنَّةِ [ في الجنة ] وأهل النَّار في النَّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجَنَّة بهذا العلامات ؟ لأنَّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ ، وذلك باطل .
والآية تدلُّ على أنَّ أصحاب الأعْرَافِ مختصُّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا الوَجْهِ لم يبقَ لهذا الاختصاص فائدة ؛ لأنَّهَا أمور محسوسة ، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص .
قوله : { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } .
والمعنى : أنَّهُم إذا نظروا إلى أهل الجنَّةِ سلّموا على أهلها والضمير في " نَادُوا " وما بعده لرجال .
وقوله : { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } كقوله : { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] إلا أنَّهُ لم يقرأ هنا إلاّ ب " أن " الخفيفة فقط .
والمعنى : يَقُولُون لهم : سلام عليكم ، وقيل : سلمتم من العقوبة ، وقوله : " وَهُمْ يَطْمَعُونَ " على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنَّهُمْ يدخلوها ، وذلك معروف في اللُّغَةِ أن يكون طمع بمعنى علم ، ذكره النَّحَّاسُ ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنَّ المراد أصحاب الأعراف{[16186]} .
قال القطربيُّ{[16187]} : قوله " لم يدخلوها " في هذه الجملة أوجه :
أحدها : أنَّها حال من فاعل " نَادوا " أي : نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنَّة .
وقوله : " وهُمْ يَطْمَعُون " يحتمل أن يكون حالاً من فاعل " يَدْخُلُوهَا " ، ثم لك اعتباران بعد ذَلِكَ .
الأول : أن يكون المَعْنَى لم يَدخُلُوها طامِعِينَ في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها .
والثاني : المعنى لم يدخلوها حَالَ كونهم طامعين ، أي : لم يدخلوها بعد ، وهم في وقت عَدَمِ الدُّخُولِ طامعون ، ويحتمل أن يكون مستأنفاً خبر عنهم بأنَّهُم طامعون في الدُّخُول .
الوجه الثاني : أن تكون حالاً من مفعول " نَادوا " أي : نادوهم حال كونهم غير داخلين ، وقوله : " وَهُمْ يَطْمَعُون " على ما تقدم آنفاً .
والوجه الثالث : أن تكون في محل رفع صفة ل " رِجَالٍ " ، قاله الزمخشريُّ{[16188]} وفيه ضعف من حيث إنَّهُ فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله : " ونَادَوْا " ، وليست جملة اعتراض .
والوجه الرابع : أنها لا مَحلَّ لها من الإعراب ؛ لأنَّهَا جواب سائل سأل عن أصحاب الأعْرَافِ ، فقال : ما صنع بهم ؟ فقالك لم يدخلوها ، وهم يَطْمَعُون في دخولها .
وقال مكي{[16189]} كلاماً عجيباً ، وهو أن قال : " إن حملت المعنى على أنَّهُمْ دخلوها كان " وهم يَطْمَعُونَ " ابتداءً وخبراً في موضع الحال من الضَّمير المرفوع في " يَدْخُلُوهَا " ، معناه : أنَّهم يَئِسُوا من الدُّخُول ، فلم يكن لهم طَمَعٌ في الدُّخول ، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك ، فإن حملت معناه أنَّهُم لم يدخلوا بعد ، ولكنهم يطمعون في الدُّخُول برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً " .
وقال بعضهم : جملة قوله : " لَمْ يَدْخُلُوهَا " من كلام أصحاب الجنَّةِ ، وجملة قوله : " وهُمْ يَطْمَعُونَ " من كلام الملائكة .
قال عطاء ابن عباس : " إنَّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسَّلام ، فيردُّون عليهم السلام ، فيقول أصحاب اللجنَّة للخَزنَةِ : ما لأصحابنا على أعراف الجنَّة لم يدخلوها ؟ فتقولُ لهم الملائكة جواباً لهم وهم يَطْمَعُون{[16190]} " وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن .
قال ابن الخطيب{[16191]} : معنى الآية أنَّهُ تعالى أخبر أنَّ أهل الأعراف ، لم يدخلوا الجنة ، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها .
ثم إن قلنا : إنَّ أصحابَ الأعْرَافِ هم أشراف أهل الجَّنَّةِ ، فالمعنى : أنه تعالى إنَّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجَنَّة ليطلعوا على أهل الجَنَّةِ والنَّار ، ثم إنَّهُ تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : " إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَراهُمْ مِنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الكوكبَ الدريَّ في أفقِ السَّمَاءِ ، وإنَّ أبَا بكر وعُمَرَ مِنْهُمْ {[16192]} "
وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامةِ في الموقف يجلس الله أهل الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة ، فإذا أدخل أهل الجنَّة الجنة ، وأهل النار النَّار نقلهم إلى الدرجات العالية ، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية . وإن قلنا : أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في الدَّرَجَّةِ النازلة من أهل النجاة ، فالمعنى أنَّهُ تعالى يجلسهم في الأعرافِ ، وهم يطمعون في فضل اللَّه وإحسانه أنْ يَنْقلَهُم من تلك المواضع إلى الجنة
قال الحَسَنُ : " الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون{[16193]} " .