اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنفال

مدنية . قيل : إلا سبع آيات من قوله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الآية : 30 ] إلى آخر سبع آيات ، فإنها نزلت بمكة ، والأصح أنها نزلت بالمدينة ، وإن كانت الواقعة بمكة ، وهي خمس وسبعون آية ، وألف وخمس وتسعون كلمة وخمسة آلاف وثمانون حرفا .

قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية .

فاعل : يَسْأل يعوُد على معلومٍ ، وهم من حَضَرَ بَدْراً ، وسَألَ تارةٌ تكون لاقتضاءِ معنى في نفسِ المسئول فتتعدَّى ب " عَنْ " كهذه الآية ؛ وكقول الشاعر : [ الطويل ]

سَلِي - إنْ جَهلْتِ - النَّاسَ عنَّا وعنْهُم *** فَليْسَ سواءً عالمٌ وجَهُولُ{[17144]}

وقد تكُون لاقتضاءِ مالٍ ونحوه ؛ فتتعدَّى لاثنين ، نحو : سألتُ زيداً مالاً ، وقد ادَّعَى بعضهم : أنَّ السُّؤال هنا بهذا المعنى .

وزعم أنَّ " عَنْ " زائدةٌ ، والتقدير : يَسْألونك الأنفالَ ، وأيَّد قوله بقراءة سعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وعلي بن الحسين ، وزيد ولده ، ومحمد الباقر ولده أيضاً ، وولده جعفر الصَّادق ، وعكرمة وعطاء " يَسألونكَ الأنفالَ " دون " عَنْ " .

والصحيح أنَّ هذه القراءة على إرادة حرف الجرِّ ، وقال بعضهم : " عَنْ " بمعنى " مِنْ " . وهذا لا ضرورة تدعو إليه .

وقرأ{[17145]} ابنُ محيصنِ " عَلَّنْفَالِ " والأصل ، أنَّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، ثم اعتدَّ بالحركةِ العارضة ، فأدغمَ النُّونَ في اللاَّم كقوله : { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [ العنكبوت : 28 ] وقد تقدم ذلك في قوله { عَنِ الأهلة } [ البقرة : 189 ] .

والأنفالُ : جمع : نَفَل ، وهي الزِّيادةُ على الشيءِ الواجب ، وسُمِّيت الغنيمة نفلاً ، لزيادتها على الحوزة .

قال لبيدٌ : [ الرمل ]

إنَّ تَقْوَى ربَّنَا خَيْرُ نَفَلْ *** وبإذْنِ اللَّهِ ريثي وعَجَلْ{[17146]}

وقال آخر : [ الكامل ]

إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نروي القَنَا *** ونَعِفُّ عند تقاسُم الأنفالِ{[17147]}

وقيل : سُمِّيت الأنفال ؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم .

وقال الزمخشريُّ : والنَّفَل ما ينفلُهُ الغازي ، أي : يعطاه ، زيادةً على سهمه من المغنم ، وقال الأزهريُّ " النَّفَل ، والنَّافلة ما كان زيادةً على الأصلِ ، وسُمِّيت الغنائمُ أنفالاً ؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم ، وصلاةُ التطوع نافلةٌ ؛ لأنَّها زيادةٌ على الفرض " وقال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أي : زيادة على ما سأل .

قال القرطبي{[17148]} : النَّفَلُ - بتحريك الفاءِ - والنَّفْل : اليمينُ ، ومنه النَّفَل في الحديث " فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم " والنَّفل : الانتفاءُ ، ومنه الحديث فانتفلَ من ولده . والنَّفلُ : نبت معروف .

فصل

في هذا السؤال قولان :

أحدهما : أنَّهم سألوا عن حكم الأنفال ، كيف تُصرفُ ؟ ومن المستحقُّ لها ؟ نظيره قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض } [ البقرة : 222 ] و { ويسألونك عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] فقال في المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض } وقال في اليتامى { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } . فأجابهم بالحكم المعيَّن في كل واقعةٍ فدلَّ الجواب المعيَّن على أنَّ السؤال كان عن مخالطة النساء في المحيض ، وعن التصرُّفِ في مال اليتامى ومخالطتهم في المؤاكلة .

الثاني : هذا سؤال استعطاء ، و " عَنْ " بمعنى " مِنْ " ، وهذا قول عكرمة كما تقدم في قراءته .

فأمَّا القولُ الأولُ : وهو أنَّ السؤال كان عن حكم الأنفال ومصرفها ، فهو قول أكثر المفسرين لأنَّ قوله { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } [ الأنفال : 1 ] يدُلُّ على أنَّ المقصود منه منع القومِ عن المخاصمة والمنازعة .

وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } يدلُّ على أنَّ السُّؤال كان بعد وقوع الخصومة بينهم ، وقوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يدلُّ على ذلك أيضاً . وإذا عرف ذلك فيحتمل أن يكون المراد بهذه الأنفال قسمة الغنائم ، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ، ويحتمل أن يكون المراد غيرها .

أما الأوَّلُ ففيه وجوه :

أحدها : أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوامٍ لم يحضرُوا أيضاً ، وهم ثمانيةُ أنفسٍ : ثلاثةُ من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار ، فالمهاجرون : عثمانُ - رضي الله عنه - تركه عليه الصلاة والسلام على ابنته وكانت مريضةً ، وطلحةُ وسعيدُ بن زيد فإنَّه عليه الصلاة والسلام بعثهما للتَّجسس عن خبرِ العدوّ وخرجا في طريق الشَّام .

وأما الأنصارُ : فأبو كنانة بن عبد المنذر ، وخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وعاصم خلفه على العالية ، والحارث بن حاطب : ردَّهُ من الرَّوحاء إلى عمرو بن عوفٍ لشيء بلغه عنه والحارث بن الصمة أصابته علةٌ بالروحاء ، وخوات بن جبير ، فهؤلاء لم يحضروا ، وضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغنائم بسهم ، فوقع من غيرهم فيه منازعة ، فنزلت هذه الآية .

ثانيها : روي أنَّ الشَّبابَ يوم بدر قتلُوا وأسرُوا ، والأشياخ وقفُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصاف فقال الشبانُ : الغنائمُ لنا لأنَّ قتلنا وأسرنا وهزمنا . فقال سعد بن معاذ : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك ، فتعطف عليك خيلٌ من المشركين فيصيبوك .

وروي أنَّ الأشياخ قالوا : كُنَّا رِدْءاً لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا ، فلا تذهبُوا بالغنائم ، فوقعت المخاصمة بهذا السَّبب فنزلت هذه الآية .

وثالثها : قال الزجاج : " الأنفالُ الغنائمُ ، وإنَّما سألُوا عنها ؛ لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم " .

وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ بيَّنَّا في هذا السؤال أنه كان مسبوقاً بمنازعة ومخاصمة ، وعلى قول الزجاج يكونُ السُّؤال عن طلب حكم فقط .

وأما الاحتمالُ الثاني : وهو أن يكون المرادُ بالأنفالِ شيئاً سوى الغنائمِ ، وعلى هذا أيضاً فيه وجوه :

أحدها : قال ابنُ عباس في بعض الروايات : " المرادُ بالأنفال ما شذَّ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من أموالهم ، فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعهُ حيثُ يشاءُ " {[17149]} .

وثانيها : الأنفالُ : الخُمس ، وهو قول مجاهد{[17150]} .

قال القومُ إنما سألوهُ عن الخمس فنزلت الآية .

وثالثها : أنَّ الأنفال هي السَّلب الذي يأخذه الغازي زائداً على سهمه من المغنم ترغيباً لهُ في القتال كقول الإمام : مَنْ قتلَ قَتِيلاً فلهُ سلبُهُ وقوله للسرية " ما أصبتُمْ فهُو لكُمْ ، أو فلكم نصفه أو ربعه " ولا يخمس النفل .

وعن سعد بن أبي وقَّاصِ قال : " قتل أخي عمير يوم بدر فقتلتُ به سعد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه ، وكان يسمَّى ذا الكتيفةِ فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إنَّ الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف ، فقال : " ليس هُو لِي ، ولا لك اطرحهُ في القبض " فطرحته ورجعت ، وبي ما لا يعلمه إلا اللَّه من قتل أخي ، وأخذ سلبي ، وقلتُ وعسى أن يعطي هذا من لم يبل بلائي ، فما جاوزت إلاَّ قليلاً حتى جاءنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل اللَّهُ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } فقال : يا سعدُ إنَّك سألتني السيف ، وليس لي ، وإنه قد صار لي فخذه " {[17151]} .

قال القاضي{[17152]} : " وكلُّ هذه الوجوه تحتمله الآية ، وليس فيها دلالةٌ على ترجيح بعضها على البعض .

فإن صحَّ دليلٌ على اليقين قضي به ، وإلاَّ فالكلُّ محتملٌ ، وإرادة الجميع جائزة فلا تناقض فيها " .

قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } أي : حكمها للَّهِ ورسوله يقسمانها كما شاءا .

قال مجاهد ، وعكرمة ، والسديُّ : إنها نسخت بقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }{[17153]} [ الأنفال : 41 ] .

وهو قول ابن عباس في بعض الروايات .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي ثابتةٌ غير منسوخة ، ومعنى الآية : قل الأنفال للَّه في الدنيا والآخرة ، وللرسُول يضعها حيثُ أمره اللَّهُ ، أي : الحكمُ فيها لله ورسوله ، وقد بيَّن الله مصارفها في قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } الآية{[17154]} .

قوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } وتقدَّم الكلام على ذات في آل عمران ، وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره : وأصلِحُوا أحْوالاً ذات افتراقكم وذات وصلكم أو ذات المكان المتصل بكم ، فإنَّ " بَيْن " قد قيل : إنه يراد به هنا : الفِراقُ أو الوصلُ ، أو الظَّرف ، وقال الزجاج وغيره : إنَّ ذات هنا بمنزلة حقيقة الشَّيء ونفسه ، وقد أوضح ذلك ابنُ عطيَّة .

وقال أبُو حيَّان{[17155]} : " والبينُ الفراقُ ، وذات نعت لمفعولٍ محذوف ، أي : وأصلحُوا أحوالاً ذات افتراقكم ، لمَّا كانت الأحوالُ ملابسةً للبين أضيفت صفتها إليه ، كما تقول : اسقني ذا إنائك ، أي : ماءً صاحب إنائك ، لمَّا لابس الماءُ الإناءَ وصف ب " ذَا " وأضيفَ إلى الإناءِ ، والمعنى : اسْقِنِي ما في الإناءِ من الماء " .

قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .

قال ابن عطيَّة{[17156]} : جواب الشرط المتقدم في قوله وأطيعُوا هذا مذهبُ سيبويه ، ومذهب المبرد : أنَّ الجواب محذوفٌ متأخر ، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّم الجوابُ على الشرط وهذا الذي ذكرهُ نقل النَّاسُ خلافه ، نقلوا جواز تقديم جواب الشرط عليه عن الكوفيين ، وأبي زيد ، وأبي العبَّاس ، واللَّهُ أعلمُ .

ويجوز أن يكون للمبرِّد قولان ، وكذا لسيبويه ؛ لأنَّ قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول .

ومعنى الآية : اتَّقُوا اللَّه بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة ، والمخالفة ، وتسليم أمر القسمة إلى الله والرسول : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي : إنَّ الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه لا يتم إلا بالتزام الطَّاعة ، فاحذروا الخروج والمخالفة ، واحتجَّ من قال : ترك الطَّاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية ؛ لأنَّ المعلَّق بكلمة " إنْ " على الشَّيء عدم عند عدم الشَّيء .


[17144]:تقدم.
[17145]:ينظر: الكشاف 2/195، والبحر المحيط 4/453، والدر المصون 3/392.
[17146]:ينظر: ديوانه ص 174، اللسان (نفل)، مجاز القرآن 1/240، والقرطبي 7/230، ومعاني الزجاج 2/399، والطبري 6/171، والكشاف 2/140، وزاد المسير 3/318، والبحر المحيط 4/452.
[17147]:البيت لعنترة: ينظر ديوانه 193، والقرطبي 7/362، والبحر المحيط 4/452.
[17148]:ينظر: تفسير القرطبي 7/230.
[17149]:ورد هذا عن عطاء. فأخرجه الطبري في "تفسيره" (6/169) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/295) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد والنحاس وابن المنذر وأبي الشيخ عن عطاء.
[17150]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/170) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
[17151]:أخرجه أحمد (1/178) وأبو داود (2/86) كتاب الجهاد: باب في النفل حديث (2740) والترمذي (5/250-251) كتاب التفسير: باب سورة الأنفال حديث (3079) والنسائي في "الكبرى" (6/348-349) والطبري في "تفسيره" (6/172) والحاكم (2/132) والبيهقي (6/291) من طرق عن مصعب بن سعد عن أبيه وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/291-292) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم. قال الترمذي عقب إخراجه الحديث: وقد رواه سماك بن حرب عن مصعب أيضا. قلت: وهذا الطريق أخرجه مسلم في صحيحه (4/1877) كتاب الفضائل: باب في فضل سعد بن أبي وقاص حديث (43/2413) باختلاف يسير في لفظه.
[17152]:ينظر تفسير الفخر الرازي 15/93.
[17153]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/175) عن مجاهد وعكرمة والسدي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/296) وعزاه إلى ابن أبي شيبة والنحاس في "ناسخه" وأبي الشيخ عن مجاهد وعكرمة.
[17154]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/175) عن ابن زيد.
[17155]:ينظر: البحر المحيط 4/453.
[17156]:ينظر: المحرر الوجيز 2/500.