اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡحَكِيمِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يونس

قالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة ، وباقيها بالمدينة ، وهي مائة وتسع آيات . وهي مكية في قول عكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس إلا ثلاثة آيات{[1]} وقال مقاتل : إلا آيتين من قوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك }{[2]} [ الآية : 94 ] وقال الكلبي : إنها مكية إلا قوله { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين }{[3]} [ الآية : 40 ] فإنها مدنية نزلت في اليهود ، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة ، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستون حرفا .

قوله تعالى : { الر تلك الكتاب الحكيم } .

قوله : بسم الله الرحمن الرحيم " الر " تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب ، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ ، وهي : را ، وطا ، وها ، ويا ، وحا . فأمال " را " من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً ، وأبو عمرو وابن عامر . وأما الأخوان وأبو بكر{[18281]} " طا " من جميع سورها نحو : { طس } [ النمل : 1 ] ، { طسم } [ الشعراء : 1 ] ، { طه } [ طه : 1 ] ، و " يا " من " يس " ، وافقهم ابنُ عامر ، والسوسي على " يا " من { كهيعص } [ مريم : 1 ] ، بخلاف عن السوسي . وأمال الأخوان وأبو عمر{[18282]} ، وورش ، وأبو بكر " ها " من " طه " ، وكذلك أمالها من " كهيعص " أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر دون حمزة وورش .

وأمال أبو عمرو ، وورش ، والأخوان ، وأبو بكر{[18283]} ، وابن ذكوان " حا " من جميع سورها السبع [ غافر : 1 ] . إلاَّ أن أبا عمرو ، وورشاً يميلان بين بين ، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات ، وكلُّها لغات صحيحةٌ .

قال الواحدي{[18284]} : " الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو " مَا " و " لا " ؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء ، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة ، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف " .

فصل

اتفقوا على أنَّ قوله " الر " وحده ليس آية ، واتفقوا على أنَّ قوله " طه " وحده آية ، والفرق أن قوله " الر " لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، بخلاف قوله " طه " فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده .

قال ابن عبَّاس والضحاك : " الر " معناه : أنا الله أرى{[18285]} ، وقيل : أنا الربُّ لا ربَّ غيري . وقال سعيد بن جبير : " الر " و " حم " و " ن " حروف اسم الرحمن مُفرقة ، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس{[18286]} . قال الرَّاوي : فحدَّثت به الأعمش فقال : " عندك أشباه هذا ولا تخبرني به " .

قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } " تلك " يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة ، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن ، لأن " تلك " إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث ، وقيل : " تلك " بمعنى " هذه " أي : هذه آياتٌ ، ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]

تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي *** هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ{[18287]}

أي : هذه خَيْلِي ، وهذه رِكَابِي .

" والكتاب " : يحتمل أن يكون المراد به القرآن ، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب ، لقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 77 ، 78 ] ، وقوله :

{ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا } [ الزخرف : 4 ] ، وقوله : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] . وقيل : المراد من " الكتابِ الحكيمِ " : التوراة والإنجيل ، والتقدير : إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل ، والمعنى : إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل ، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه ، وقال أبُو مسلم : قوله " تِلْكَ " إشارة إلى حروف التهجِّي ، فقوله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } يعني : أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي ، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز ، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً .

قوله : " الحكيم " قيل : ذُو الحكمة ، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة . وقيل : وصف الكتاب بصفة من تكلم به ؛ كقول الأعشى : [ الكامل ]

وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ *** قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ : مَنْ ذَا قالهَا ؟{[18288]}

فيكون " فعيل " بمعنى " مُفْعَلٍ " .

وقال الأكثرون : " الحَكِيم " بمعنى الحاكم ، " فعيل " بمعنى " فاعل " ؛ لقوله تعالى { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس } [ البقرة : 213 ] وقيل : بمعنى : المُحْكَم ، " فَعِيل " بمعنى " مُفْعَل " ، أي : محكم ، والمحكم معناه : المنع من الفساد ، فيكون المعنى : لا تُغَيِّرهُ الدُّهور ، والمراد : براءته عن الكذب والتناقض . وقال الحسن " حكم فيه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ ، وبالنَّار لمن عصاه " {[18289]} .

فعلى هذا " الحَكيم " يكون بمعنى المحكُوم فيه . وقيل : " الحَكِيم " في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب ، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[18281]:ينظر: السبعة ص (322)، الحجة للقراء السبعة 4/243-244، حجة القراءات ص (327)، إعراب القراءات 1/260، إتحاف 2/103.
[18282]:ينظر: السابق.
[18283]:ينظر: السابق.
[18284]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 17/3.
[18285]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/525) عن الضحاك وابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/534) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في "الأسماء والصفات" وابن النجار في "تاريخه". وذكره أيضا (3/534) عن الضحاك وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[18286]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/525) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/535) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.
[18287]:ينظر البيت في ديوانه 27 وغريب القرآن 53 وتأويل المشكل 231 والقرطبي 1/305 واللسان (خشب)، والخزانة 2/464، والمخصص 2/105.
[18288]:ينظر البيت في ديوانه ص77 وخزانة الأدب 4/259 والدرر 1/269 وشرح شذور الذهب ص 189 والهمع 1/84 والتهذيب 4/114 والقرطبي 8/195 والتفسير الكبير 17/4 واللسان (حكم) والدر المصون 4/3.
[18289]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (8/195) عن الحسن وغيره.