اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (128)

قوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } الآية .

لمَّا أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى الخلق وهي مما يعسر تحملها ؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق ، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف ، وهو أنَّ هذا الرسول منكم ؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف ، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق ، والأب الرحيم في حقكم ، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف ، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان .

قوله " مِّنْ أَنفُسِكُمْ " صفة ل " رسُول " أي : من صميم العربِ . قال ابنُ عباسٍ : ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ " {[18266]} .

وقرأ ابنُ عبَّاسٍ ، وأبو العالية{[18267]} ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، والزهري ، وعبدُ الله بن قسيط المكي ، ويعقوبُ من بعض طرقه ، وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة ، وعائشة بفتح الفاء ، أي : من أشْرفكُم ، من النَّفاسة .

فصل

اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات ، أولها : قوله " مِنْ أنفُسِكُم " وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس ، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته ، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا ، فهو سبب لعزكم ، فإنه منكم ، ومن نسبكم . وثانياً : يريد أنه بشر مثلكم ، كقوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] وقوله : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الكهف : 110 ] والمعنى : أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ ، كما قرر في الأنعام .

وثالثها : أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم ؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ، فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه ، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه .

والصفة الثانية : قوله " عَزِيزٌ " فيه أوجه :

أحدها : أنَّهُ صفة ل " رسُول " ، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح .

وقد يجاب بأنَّ " مِنْ أنفُسِكُم " متعلق ب " جَاءَ " و " ما " يجوزُ أن تكون مصدرية ، أو بمعنى " الذي " .

وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب " عَزِيز " ، أي : يعزُّ عليه عنتُكم ، أو الذي عنتُّمُوهُ ، أي : عنتُهم يُسيئه ، فحذف العائد على التدرج ؛ وهذا كقوله : [ الوافر ]

يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي *** وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا{[18268]}

أي : يَسُرُّه ذهاب الليالي . ويجوز أن يكون " عزيزٌ " خبراً مقدماً ، و " مَا عَنتُّمْ " مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل " رسُول " وجوَّزَ الحوفي : أن يكون " عزيزٌ " مبتدأ ، و " ما عنتم " خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها . وتقدَّم معنى { العنت } [ النساء : 25 ] . والأرجح أن يكون " عَزيزٌ " صفة ل " رسُولٌ " لقوله بعد ذلك " حَرِيصٌ " فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو حريصٌ ، لا حاجة إليه . قال الفرَّاءُ : " ما " في قوله : " مَا عنِتُّم " في موضع رفع ، أي : عزيز عليه عنتكم ، أي : يشقُّ عليه مكروهكم . وقال القتيبيُّ : ما أعنتكم وضركم . وقال ابن عباس : ما ضللتم{[18269]} . وقال الضحاكُ والكلبيُّ : ما آثمكم{[18270]} .

والصفة الثالثة : قوله : " حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ " والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم ، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة ، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم ؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد ، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار .

والصفة الرابعة والخامسة قوله : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } " بالمُؤمنينَ " متعلقٌ ب " رَءُوفٌ " ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع ؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين ، وإن كان بعضهم قد خالف ، ويجيزُ : زيداً ضربتُ وشتمته ، على التَّنازع .

وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف ، فيكون من إعمال الثاني ، لا الأول ، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف .

فصل

قال ابن عباس : سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه{[18271]} . والمعنى : رءوفٌ بالمطيعين .

فإن قيل : كيف يكون كذلك ، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى .

فالجوابُ : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق ، والأدب المشفق ، والمعنى : أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد ، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد .

فإن قيل : لمَّا قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } فهذا النَّسق يوجب أن يقال : رءوف رحيم بالمؤمنين ، فلم ترك هذا النسق وقال : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .

فالجواب : أنَّ هذا يفيد الحصر ، أي : لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين . فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة ، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ ، كأنَّهُ يقول : إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة ، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين ، وأما رحمتي ، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين .


[18266]:أخرجه البيهقي (7/190) والطبراني (10/399) وابن عساكر (1/346) والبغوي في "تفسيره" (2/341) من طريق المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في "المجمع" (8/217) وقال: لم أعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا.
[18267]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/101، الكشاف 2/325، المحرر الوجيز 3/100، البحر المحيط 5/121، الدر المصون 3/514.
[18268]:ينظر البيت في الدرر 1/253 والجنى الداني ص331 والأشباه والنظائر 3/37 وشرح التصريح 1/268 وشرح المفصل 8/142، 143، وهمع الهوامع 1/81 والبحر 5/121 والدر المصون 3/514.
[18269]:أخرجه الطبري (6/523) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/342).
[18270]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/342).
[18271]:ذكره الرازي في "تفسيره" (16/188).