اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُواْ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَلَمۡ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَلِيجَةٗۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (16)

قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } الآية .

قال الفراء : " أمْ " من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ، ولو أريد به الابتداء لكان ب " الألف أو ب " هل " .

فصل

هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل : هذا خطابٌ للمنافقين ، وقيل : للمؤمنين الذي شق عليهم القتال ، فقال : أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب ، " ولمَّا يعلم اللهُ " أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم ، وذكر العلم والمراد منه : المعلوم ، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم ، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله ، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده .

قوله { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة ، لعطفها عليها ، أي : الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا .

الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل : " جَاهدُوا " أي : جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً .

و : " وَليجَةً " مفعول ، و " مِن دُونِ اللهِ " إمَّا مفعول ثان ، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير ، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ ، إن كان على بابه ، والوليجة : فَعِيلة ، مِن الوُلُوج ، وهُو الدُّخُولُ ، و " الوَليجَةُ " من يداخلك في باطن أمورك ، وقال أبو عبيدة : " كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ ، والرجل في القوم وليس منهم ، يقال له وليجة " ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ ، للمفردِ ، والمثنى ، والمجموع ، وقد يجمعُ على " ولاَئِج " ووُلُج ، ك : صحيفة ، وصحائف ، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي : [ الطويل ]

ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ *** إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ{[17649]}

فصل

معنى الآية : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } بطانة ، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم .

وقال قتادةُ : " وَليجةً " خيانة{[17650]} . وقال الضَّحَّاك . " خديعة " {[17651]} . والمقصودُ من ذكر هذا الشَّرط : أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً ، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره ، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ ، والنفاقِ ، والتَّودُّدِ إلى الكفار .

والمقصودُ : بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط ، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ ، ولحكمه وتكليفه ، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع .

قوله : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قرأ الحسنُ{[17652]} " بِمَا يَعْملُون " بالغيبةِ على الالتفات ؛ وبها قرأ يعقوبُ في رواية سلاَّم ، أي : عالم بنياتهم ، وأغراضهم ، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ .

قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن ، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة ، كما قال { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] ، قال : ولمَّا فرض القتالُ ، تميَّز المنافقُ من غيره ، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ{[17653]} .


[17649]:البيت من شواهد البحر 5/20، والدر المصون 3/453.
[17650]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/390) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/273).
[17651]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/273).
[17652]:ينظر: البحر المحيط 5/20، الدر المصون 3/453.
[17653]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (16/6) عن ابن عباس.