اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ} (18)

قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله } جمهورُ القراء على الجمع ، وقرأ الجحدريُّ{[17667]} ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد ، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم ، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ ؛ لأن المراد : جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض .

فصل

اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد ، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع ، فقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله ؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه ، والكافرُ يمتنع منه ذلك ، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر ، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة ، فمن أنكر القيامة ، لم يعبد الله ، ومن لم يعبد الله ، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؟ .

فالجوابُ : من وجوه :

الأول : أنَّ المشركين كانوا يقولون : إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة ، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، وترك ذكر النُّبوةِ ، كأنه يقولُ : مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصليّ ، وحذف ذكر النبوة ، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر .

الثاني : أنه لمَّا ذكر الصَّلاة ، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة ، فكان كافياً .

الثالث : أنَّه ذكر الصلاة ، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة ، وأمَّا قوله " وأَقَامَ الصَّلاةَ " فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة ، وأمَّا قوله " وآتَى الزَّكاةَ " فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة ، فإنَّه يحضرُ في المسجد ، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين ، لطلب أخذ الزَّكاةِ ، فتحصُل عمارة المسجد ، وإن حملنا العمارة على البناء ، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً .

وأما قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } أي : لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة ، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله .

روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً ، فكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن ، والكفار يؤذونه بسببه ، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة ، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع ، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا . قال عليه الصلاة والسلام : " يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً ، ذكرُهُم الدُّنْيَا ، وحُبُّ الدُّنْيَا ، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة " {[17668]} وقال عليه الصلاة والسلام " الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " {[17669]} ، وقال عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : " إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها ، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي ، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ " {[17670]} ، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله " {[17671]} ، وقال عليه الصلاة والسلام " إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان " {[17672]} ، وقال عليه الصلاة والسلام " مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ " {[17673]} ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ .

قوله : { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } قال المفسرون : " عسى " من الله واجب ، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد .

وقال أبو مسلم : " عسى " ههنا راجع إلى العباد ، وهو يفيدُ الرجاء ، فكان المعنى : إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات ، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء ، لقوله تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [ السجدة : 16 ] والتحقيق فيه : أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال ، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب ؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول ، وقال الزمخشريُّ " المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء ، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها " . فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع ، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين " لَعَلَّ " و " عَسَى " ، فما بالُ هؤلاء المشركين ، يقطعون بأنَّهم مهتدون ، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى .


[17667]:ينظر: الكشاف 2/254، المحرر الوجيز 3/15، البحر المحيط 5/21، الدر المصون 3/454.
[17668]:أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/323) من حديث أنس بن مالك، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[17669]:ذكره الغزالي في "الإحياء" (1/152) بهذا اللفظ وقال الحافظ العراقي لم أقف له على أصل. وذكره الشيخ علي القاري في "الأسرار المرفوعة" رقم (422) وأقر قول العراقي.
[17670]:أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" (2/25) وقال الهيثمي: وفيه عبد الله بن يعقوب الكرماني وهو ضعيف.
[17671]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/26) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة وفيه كلام.
[17672]:أخرجه الترمذي (2620) وابن ماجه (802) وأحمد (3/76) وابن خزيمة (2/379) رقم (1502) والحاكم (2/322) والدارمي (1/278) وابن حبان (310-موارد) وأبو نعيم (8/327) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/459) من طريق دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[17673]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/394) وعزاه لسليم الرازي في الترغيب عن أنس مرفوعا.