اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (61)

قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } الآية .

وهذا نوع آخر من طعن المنافقين ، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذن . نزلت في جماعة من المنافقين ، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي ، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا ، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول ، إنَّما محمدٌ أذنٌ ، أي سامعة ، يقال : فلان " أذنٌ وأذنٌ " على وزن " فُعُل " ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله .

وأصله من " أذن " له " أذَناً " إذا استمع ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار : " نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث{[17924]} ، وكان رجُلاً أزلم ، ثائر الشعر ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، مشوَّه الخلقة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث " .

وكان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل فقال : إنَّما محمد أذن ، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه ؛ فنقول ما شئنا ، ثُمَّ نأتيه فنحلف له ، فيصدقنا ، فنزلت الآية{[17925]} .

قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها ، لتكون حجة للرسول ، ولينزجروا ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي } [ التوبة : 61 ] { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } [ التوبة : 75 ] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب ، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله .

ومعنى " أذنٌ " أي : أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليمُ القلبِ ، سريع الاغترار بكل ما يسمع .

قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } " أذُنُ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة ، وقرأ الحسنُ{[17926]} ، ومجاهدٌ ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم " أذُنٌ " بالتنوين ، " خَيْرٌ " بالرفع ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنَّها وصف " أذُن " .

والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر ، و " خير " يجوزُ أن يكون وصفاً ، من غير تفضيل ، أي : أذُنٌ ذُو خير لكم ، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي : أكثر خيراً لكم . وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون " أذُن " مبتدأ ، و " خَيْر " خبرها ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة ؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً ، أي : أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم ، ويقال : رجَلٌ أذنٌ ، أي : يسمع كل ما يقال ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أنَّهُ سُمِّي بالجارحة ؛ لأنَّها آلة السماع ، وهي معظم ما يقصد منه ؛ كقولهم للربيئة : عَيْنٌ .

وقيل : المرادُ ب " الأذُن " هنا الجارجة ، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي : ذُو أذن .

والثاني : أنَّ الأذن وصفٌ على " فُعُل " ، ك " أنُف " و " شُلُل " يقال : أذِنَ يَأذَن ، فهو أذُن ؛ قال : [ الطويل ]

وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً *** يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا{[17927]}

ومعنى قراءة عاصم : إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ ، فأذن خير لكم ، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم . ومعنى قراءة الجرِّ : أي : هو أذُنُ خير ، لا أذُنُ شر وقرأ{[17928]} نافع " أذْن " ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن ، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل : عنق وظفر .

ثم بيَّن كونه " أذُنُ خَيْرٍ " بقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام " أذُنُ خَيْرٍ " ، أمَّا قوله { يُؤْمِنُ بالله } فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله ، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل . ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي : يسلمُ للمؤمنين قولهم ، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب .

فإن قيل : لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ ، وإلى المؤمنين باللاَّم ؟ .

فالجواب : أنَّ المراد بالإيمان بالله ، المراد منه : التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين ، معناه : الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم ، كقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقوله { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] وقوله : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقوله { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] .

وقال ابن قتيبة " هما زائدتان ، والمعنى : يصدِّق الله ، ويصدِّق المؤمنين " وهذا مردود ؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد ، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ ، لما غاير بين الحرفين .

وقال المبرد : هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل ، كأنَّه قال : وإيمانه للمؤمنين وقيل : يقال : آمنتُ لك ، بمعنى : صدَّقتكَ ، ومنه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] . قال شهابُ الدِّينِ{[17929]} وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها " ما " ، والمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ{[17930]} : واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ ، دخلت لتفرِّق بين " يُؤمن بمعنى : يُصدِّق ، وبين " يؤمن " بمعنى : يثبت الإيمان وقوله : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فهذا أيضاً يوجبُ الخير به ؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم ، ولا يهتكُ أستاركم ، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه " أذُن خَيْرٍ " وقرأ الجمهورُ " ورَحْمَةٌ " رفعاً نسقاً على " أذُنُ " أي : وهو رحمة للذين آمنوا . وقال بعضهم : هو عطفٌ على " يُؤمن " ، لأنَّ " يُؤمن " في محل رفع صفة ل : " أذُن " ، تقديره : أذُن يؤمن ورحمة . وقرأ{[17931]} حمزة والأعمش " ورحمةٍ " بالجر نسقاً على " خيرٍ " المخفوض بإضافة " أذُنُ " إليه ، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين ، تقديره : أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ . وقرأ ابنُ أبي{[17932]} عبلةٍ : " ورَحْمَةٌ " نصباً على أنَّه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يأذن لكم رحمةً بكم ، فحذف لدلالة قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } .

فإن قيل : كل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير ؟

[ فالجواب : إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ]{[17933]} كقوله : { وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة ، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة ، وخيره بالشَّر ؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم .


[17924]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/405) وذكره البغوي في "تفسيره" (2/306).
[17925]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/306) والقرطبي (8/192).
[17926]:ينظر: السبعة ص (313)، الحجة للقراء السبعة 4/198-203، حجة القراءات ص (319)، إعراب القراءات 1/250، إتحاف 2/94.
[17927]:البيت لعمرو بن أبي بكر العدوي القرشي. ينظر: معجم الشعراء 34، والبحر 5/64، والدر المصون 3/477.
[17928]:ينظر: السبعة ص (313)، الحجة 4/198-203، حجة القراءات ص (319)، إعراب القراءات 1/250، إتحاف فضلاء البشر 2/94.
[17929]:ينظر: الدر المصون 3/477-478.
[17930]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/17.
[17931]:ينظر: السبعة ص (316)، الحجة للقراء السبعة 4/293، حجة القراءات ص (320)، إعراب القراءات 1/250، إتحاف 2/94.
[17932]:ينظر: الكشاف 2/285، البحر المحيط 5/65، الدر المصون 3/3/477.
[17933]:سقط في أ.