اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ} (65)

قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية .

قال الكلبي ، ومقاتل ، وقتادةُ : " إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين ، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك{[17954]} .

قيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم ، ويفتح مدائنهم ، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك .

وقيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن ، وإنما هو قوله وكلامه ، فأطلع اللهُ نبيهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : " احبسُوا الرَّكبَ عليَّ " فدعاهُم وقال لهُم : " قُلْتُم كذا وكذا " فقالوا : إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب " .

قال ابن عمر : " رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه ، وهو يقولُ : " إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ " . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ " . ولا يلتفتُ إليه{[17955]} " .

وقال أبُو مسلم : قوله : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء ، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم : لِمَ فعلتُم ذلك ؟ قالوا : لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب .

فصل في بيان أصل الخوض

قال الواحديُّ : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسولُ بقوله : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " .

قوله : " . . . أباللهِ . . . " متعلقٌ بقوله : " تَستهْزئُونَ " . و " تَسْتهْزِئُونَ " خبرُ " كان " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وقد تقدَّم معمول الخبر على " كان " فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى .

وفيه بحث ، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل ، بقوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] قال : ف " اليتيم " ، والسائل قد تقدما على " لا " الناهية ، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا يجوز تقديم ما بعد " لا " الناهية عليها ، لكونه مجزوماً بها ، فقد تقدَّم المعمولُ ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر ، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر " ليس " بقوله { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] .

فصل

فرق بين قولك : أتستهزىء بالله ، وبين قولك : أبالله تستهزىء ، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول : هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] والمقصود : ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول . ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليفِ الله ، والاستهزاء بذكر الله ، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ ، كما أنَّ المؤمن يعظمها . والمرادُ بالاستهزء ب " آيَاتِهِ " هو القرآن ، وسائر ما يدلُّ على الدين ، والرسول معلوم .


[17954]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/456) عن الكلبي وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/308).
[17955]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/409) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/455-456) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/308) عن عمر.