مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّا ٱسۡتَيۡـَٔسُواْ مِنۡهُ خَلَصُواْ نَجِيّٗاۖ قَالَ كَبِيرُهُمۡ أَلَمۡ تَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ أَبَاكُمۡ قَدۡ أَخَذَ عَلَيۡكُم مَّوۡثِقٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبۡلُ مَا فَرَّطتُمۡ فِي يُوسُفَۖ فَلَنۡ أَبۡرَحَ ٱلۡأَرۡضَ حَتَّىٰ يَأۡذَنَ لِيٓ أَبِيٓ أَوۡ يَحۡكُمَ ٱللَّهُ لِيۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡحَٰكِمِينَ} (80)

قوله تعالى { فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنهم لما قالوا : { فخذ أحدنا مكانه } وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده ، فعند هذا قال تعالى : { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا } وهو مبالغة في يأسهم من رده { وخلصوا نجيا } أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه ، لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة : أحدها : أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخا كبيرا فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة . وثانيها : أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة . وثالثها : أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول ، ولكان يوهم أيضا أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة ، وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلبا للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله : { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا } .

المسألة الثانية : قال الواحدي روي عن ابن كثير ، استيأسوا ، و { حتى إذا استيئس الرسل } بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة . قال صاحب «الكشاف » : استيأسوا يئسوا ، وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله : { استعصم } وقوله : { خلصوا } قال الواحدي : يقال خلص الشيء يخلص خلوصا إذا ذهب عنه الشائب من غيره ، ثم فيه وجهان : الأول : قال الزجاج خلصوا أي انفردوا ، وليس معهم أخوهم ، والثاني : قال الباقون تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر . وأما قوله : { نجيا } فقال صاحب «الكشاف » : النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر . ومنه قوله تعالى : { وقربناه نجيا } وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل : النجوى بمعنى المتناجين ، فعلى هذا معنى { خلصوا نجيا } اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم { نجيا } أي مناجيا . روي { نجوى } أي فوجا { نجيا } أي مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا ، وأحسن الوجوه أن يقال : إنهم تمحضوا تناجيا ، لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء ، فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم ، صاروا نفس التناجي حقيقة .

أما قوله تعالى : { قال كبيرهم } فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل ، وقيل كبيرهم في العقل وهو يهودا ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ، ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال : { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما قال يوسف عليه السلام : { معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } غضب يهودا ، وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز ، فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا : إن أبانا قد أخذ علينا موثقا عظيما من الله . وأيضا نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة .

المسألة الثانية : لفظ ما في قوله : { ما فرطتم } فيها وجوه : الأول : أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام ، ولم تحفظوا عهد أبيكم . الثاني : أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف ، وهو من قبل . ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف ، الثالث : النصب عطفا على مفعول { ألم تعلموا } والتقدير : ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف . الرابع : أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ، ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين ، ثم قال : { فلن أبرح الأرض } أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها . أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين ، لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق ، وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعا إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه .