مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ} (70)

ثم قال تعالى : { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل ، أما السقاية فقال صاحب «الكشاف » : مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل : كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به ، وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعا ، وقيل : كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضا وهذا أقرب ، ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب ، وقيل : كانت من ذهب ، وقيل : كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضا بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك ، والأولى أن يقال : كان ذلك الإناء شيئا له قيمة ، أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا .

ثم قال تعالى : { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } يقال : أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان : قال ابن الأنباري : أذن معناه أعلم إعلاما بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاما واحدا من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع ، وقال سيبويه : أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما ، والتأذين معناه : النداء والتصويت بالإعلام .

وأما قوله تعالى : { أيتها العير إنكم لسارقون } قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل ، وقيل : العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء ، وقيل : هي قافلة الحمير ، ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف .

إذا عرفت هذا فنقول : { أيتها العير } المراد أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود : { وجعل السقاية } على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا { ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون } .

فإن قيل : هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره ؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواما وينسبهم إلى السرقة كذبا وبهتانا ، وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة .

قلنا : العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوها : الأول : أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له : إني أريد أن أحبسك ههنا ، ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك ، وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنبا . والثاني : أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام ، والمعاريض لا تكون إلا كذلك . والثالث : أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام ، وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذبا . الرابع : ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها .