مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالُواْ تَٱللَّهِ تَفۡتَؤُاْ تَذۡكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوۡ تَكُونَ مِنَ ٱلۡهَٰلِكِينَ} (85)

أما قوله تعالى : { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن السكيت يقال : ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد . قال ابن قتيبة يقال : ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا : ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

والمعنى : لا أبرح قاعدا ومثله كثير . وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره ، وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين .

المسألة الثانية : حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب ، وقوله : حرضت فلانا على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه ، وقال تعالى : { حرض المؤمنين على القتال } .

إذا عرفت هذا فنقول : وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد . وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معا .

إذا عرفت هذا فنقول : للمفسرين فيه عبارات : أحدها : الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله . وثانيهما : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال : الفاسد الدنف . وثالثها : أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات ، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ : { حتى تكون حرضا } بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان ، وقوله : { أو تكون من الهالكين } أي من الأموات ، ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا : أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف .

فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعا ؟

قلنا : إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر .

فإن قيل : القائلون بهذا الكلام وهو قوله : { تالله } من هم ؟

قلنا : الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم ، بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه .