قوله تعالى{ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم } .
المسألة الأولى : أن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده ، ثم إن الله تعالى أنزل قوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } وأنزل في الآيات : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وقوله : { ويستفتونك في النساء قل الله بفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ، والمستضعفين من الولدان ، وأن تقوموا لليتامى بالقسط ، وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما } وقوله : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، والمقاربة من أموالهم ، والقيام بأمورهم ، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم ، فثقل ذلك على الناس ، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم ، استعدوا للوعيد الشديد ، وإن تركوا وأعرضوا عنهم ، اختلت معيشة اليتامى ، فتحير القوم عند ذلك .
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة ، يحتمل أن السؤال كان في قلبهم ، وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى ، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء ، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا وطعاما وشرابا فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ما لكلنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يفردهما لليتيم ، فنزلت هذه الآية .
المسألة الثانية : قوله : { قل إصلاح لهم خير } فيه وجوه أحدها : قال القاضي : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما ، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيرا فيه من إصلاح حاله بالتجارة ، ويدخل فيه أيضا إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ، ويدخل فيه أيضا معنى قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ومعنى قوله : { خير } يتناول حال المتكفل ، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصرا في حق اليتيم ، ويتناول حال اليتيم أيضا ، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه ، وصلاح ماله ، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي .
فإن قيل : ظاهر قوله : { قل إصلاح لهم خير } لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم .
قلنا : ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحا له ، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر ، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها : قول من قال : الخبر عائد إلى الولي ، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجرا له ، والثالث : أن يكون الخبر عائدا إلى اليتيم ، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم ، والقول الأول أولى ، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض ، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز ، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي ، وإلى اليتيم في إصلاح النفس ، وإصلاح المال ، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة ، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه ، واليتيم في ماله وفي نفسه ، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية .
أما قوله تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المخالطة جمع يتعذر فيه التمييز ، ومنه يقال للجماع : الخلاط ويقال : خولط الرجل إذا جن ، والخلاط الجنون لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله .
المسألة الثانية : في تفسير الآية وجوه أحدها : المراد : وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم ، والمعنى : أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم ، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم ، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين ، والاجتماع في المسكن الواحد ، كما يفعله المرء بمال ولده ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة ، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها : أن يكون المراد بهذه المخالفة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنيا أو فقيرا ، ومنهم من قال : إذا كان القيم غنيا لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : { ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وأما إن كان القيم فقيرا فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر ، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم : إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضا بالمعروف ثم قضيت ، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيرا وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه .
القول الثالث : أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي .
والقول الرابع : وهو اختيار أبي مسلم : أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح ، على نحو قوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا } وقوله عز من قائل : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء } قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها : أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها : أن الشركة داخلة في قوله : { قل إصلاح لهم خير } والخلط من جهة النكاح ، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها : أن قوله تعالى : { فإخوانكم } يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط ، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلما ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : { فإخوانكم } إلى نوع آخر من المخالطة ورابعها : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة ، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك .
المسألة الثالثة : قوله : { فإخوانكم } أي فهم إخوانكم ، قال الفراء : ولو نصبته كان صوابا ، والمعنى فإخوانكم تخالطون .
أما قوله : { والله يعلم المفسد من المصلح } فقيل : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، وقيل : يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح ، يعني : إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضا آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم ، وهذا تهديد عظيم ، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له أحد يراعيها فكأنه تعالى قال : لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه ، وقيل : والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئا من غير إصلاح منكم لمالهم .
أما قوله تعالى : { ولو شاء الله لأعنتكم } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : «الإعنات » الحمل على مشقة لا تطاق يقال : أعنت فلان فلانا إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتا إذا لبس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل { العنت } من المشقة ، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدودا ، ومنه قوله تعالى : { عزيز عليه ما عنتم } أي شديد عليه ما شق عليكم ، ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا وقال عطاء : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم ، وقال الزجاج : ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم .
المسألة الثانية : احتج الجبائي بهذه الآية ، فقال : إنها تدل على أنه تعالى لم يكلف العبد بما لا يقدر عليه ، لأن قوله : { ولو شاء الله لأعنتكم } يدل على أنه تعالى لم يفعل الإعنات والضيق في التكليف ، ولو كان مكلفا بما لا يقدر العبد عليه لكان قد تجاوز حد الإعنات وحد الضيق .
واعلم أن وجه هذا الاستدلال أن كلمة { لو } تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ثم سألوا أنفسهم بأن هذه الآية وردت في حق اليتيم ، وأجابوا عنه بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأيضا فولى هذا اليتيم قد لا يفعل تعالى فيه قدرة الإصلاح ، لأن هذا هو قولهم فيمن يختار خلاف الإصلاح وإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقول تعالى فيه خاصة { ولو شاء الله لأعنتكم } مع أنه كلفه بما لا يقدر عليه ، ولا سبيل له إلى فعله ، وأيضا فالإعنات لا يصح إلا فيمن يتمكن من الشيء فيشق عليه ويضيق ، فأما من لا يتمكن البتة فذلك لا يصح فيه ، وعند الخصم الولي إذا اختار الصلاح فإنه لا يمكنه فعل الفساد ، وإذا لم يقدر على الفساد لا يصح أن يقال فيه { ولو شاء الله لأعنتكم } .
والجواب عنه : المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم .
المسألة الثالثة : احتج الكعبي بهذه الآية على أنه تعالى قادر على خلاف العدل ، لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات ما جاز أن يقول : { ولو شاء الله لأعنتكم } وللنظام أن يجيب بأن هذا معلق على مشيئة الإعنات ، فلم قلتم بأن هذه المشيئة ممكنة الثبوت في حقه تعالى ، والله أعلم .