مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (12)

قوله تعالى { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي { سيغلبون ويحشرون } بالياء فيهما ، والباقون بالتاء المنقطة من فوق فيهما ، فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت ، فالمعنى : بلغهم أنهم سيغلبون ، ويدل على صحة الياء قوله تعالى : { قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] و { قل للمؤمنين يغضوا } [ النور : 30 ] ولم يقل غضوا ، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ، ويدل على حسن التاء قوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب } [ آل عمران : 81 ] والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم ، والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله اعلم .

المسألة الثانية : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر وقدم المدينة ، جمع يهود في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا ، فقالوا : يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال ، لو قاتلتنا لعرفت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

الرواية الثانية : أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر ، قالوا : والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ، ونعته وأنه لا ترد له راية ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا فلما كان يوم أحد ونكب أصحابه قالوا : ليس هذا هو ذاك ، وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والرواية الثالثة : أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم ، وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم .

المسألة الثالثة : احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، فقال : إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذبا وذلك محال ، ومستلزم المحال محال ، فكان الإيمان والطاعة محالا منهم ، وقد أمروا به ، فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق ، وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى : { سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ] .

المسألة الرابعة : قوله { ستغلبون } إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على موافقته ، فكان هذا إخبارا عن الغيب وهو معجز ، ونظيره قوله تعالى : { غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون } الروم : 2 ، 3 ) الآية ، ونظيره في حق عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران : 49 ] .

المسألة الخامسة : دلت الآية على حصول البعث في القيامة ، وحصول الحشر والنشر ، وأن مرد الكافرين إلى النار .

ثم قال : { وبئس المهاد } وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال : { بئس المهاد } والمهاد : الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش ، قال الله تعالى : { والأرض فرشناها فنعم الماهدون } [ الذاريات : 48 ] فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة ، قال الله تعالى : { وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } [ الأعراف : 165 ] أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله .