مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{الٓمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة آل عمران مائتا آية مدنية .

{ ألم ، الله لا إله إلا هو الحي القيوم } .

أما تفسير { الم } فقد تقدم في سورة البقرة ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ أبو بكر عن عاصم { الم ، الله } بسكون الميم ، ونصب همزة : الله ، والباقون موصولا بفتح الميم ، أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول : نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني : أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل ، فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم ، وأما من نصب الميم ففيه قولان :

القول الأول : وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر ، يقول : ألف ، لام ، ميم ، كما تقول : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله : الله ، فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة ، إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ، ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها .

فإن قيل : إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة ، وإن كان التقدير هو الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها ، وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها ، وامتنع إلقاء حركتها على الميم .

قلنا : لم لا يجوز أن يكون ساقطا بصورته باقيا بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفراء .

والقول الثاني : قول سيبويه ، وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين ، وهذا القول رده كثير من الناس ، وفيه دقة ولطف ، والكلام في تلخيصه طويل .

وأقول : فيه بحثان أحدهما : سبب أصل الحركة ، والثاني : كون تلك الحركة فتحة .

أما البحث الأول : فهو بناء على مقدمات :

المقدمة الأولى : أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفا من حروف المد واللين لم يجب التحريك ، لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين ، كقولك : هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر ، أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين ، لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة .

المقدمة الثانية : مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام ، وهي ساكنة ، والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام ، فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفا آخر فإن كان متحركا توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكنا حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام ، وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام ، فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام ، فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى ، حقيقة وحكما ، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال : ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة على كونها باقية حكما ، لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام ، أو أثر من الآثار ، لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطا كليا ، وبهذا يبطل قول الفراء .

المقدمة الثالثة : أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر ، وذلك متفق عليه .

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الميم من قولنا { الم } ساكن ولام التعريف من قولنا { الله } ساكن ، وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ، ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى ، وصح بهذا البيان قول سيبويه ، وبطل قول الفراء .

أما البحث الثاني : فلقائل أن يقول : الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر ، فلم اختير الفتح ههنا ، قال الزجاج في الجواب عنه : الكسر ههنا لا يليق ، لأن الميم من قولنا { الم } مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل ، فتركت الكسرة واختيرت الفتحة ، وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج ، وقال : ينتقض قوله بقولنا : جير ، فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء ، وهذا الطعن عندي ضعيف ، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها ، فإذا اجتمعا عظم الثقل ، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك { الله } وهو في غاية الخفة ، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات ، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان ، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة ، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا { الله } فكان النطق به سهلا ، فهذا وجه تقرير قول سيبويه ، والله اعلم .

المسألة الثانية : في سبب نزول أول هذه السورة قولان :

القول الأول : وهو قول مقاتل بن سليمان : إن بعض أول هذه السورة في اليهود ، وقد ذكرناه في تفسير { الم ، ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 2 ] .

والقول الثاني : من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى ، وهو قول محمد بن إسحق قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم ، أحدهم : أميرهم ، واسمه عبد المسيح ، والثاني : مشيرهم وذو رأيهم ، وكانوا يقولون له : السيد ، واسمه الأيهم ، والثالث : حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم ، يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل ، وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم ، فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته ، وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة ، فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت ، فقال كرز أخوه : تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو حارثة : بل تعست أمك ، فقال : ولم يا أخي ؟ فقال : إنه والله النبي الذي كنا ننتظره ، فقال له أخوه كرز : فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا ، قال : لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا ، فلو آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم لأخذوا منا كل هذه الأشياء ، فوقع ذلك في قلب أخيه كرز ، وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ، ثم تكلم أولئك الثلاثة : الأمير ، والسيد والحبر ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختلاف من أديانهم ، فتارة يقولون عيسى هو الله ، وتارة يقولون : هو ابن الله ، وتارة يقولون : ثالث ثلاثة ، ويحتجون لقولهم : هو الله ، بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، ويبرىء الأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ، ويحتجون في قولهم : إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ، ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا وجعلنا ، ولو كان واحدا لقال فعلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلموا ، فقالوا : قد أسلمنا ، فقال صلى الله عليه وسلم كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا ، وتعبدون الصليب ، وتأكلون الخنزير ، قالوا : فمن أبوه ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها .

ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يناظر معهم ، فقال : ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت ، وأن عيسى يأتي عليه الفناء ؟ قالوا : بلى ، قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه ؟ قالوا بلى ، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه ، فهل يملك عيسى شيئا من ذلك ؟ قالوا : لا ، قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم ؟ قالوا : لا ، قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء ، فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ، ويحدث الحدث قالوا : بلى فقال صلى الله عليه وسلم : « فكيف يكون كما زعمتم ؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه ؟ قال : بلى » ، قالوا : فحسبنا فأنزل الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه } [ آل عمران : 7 ] الآية .

ثم إن الله تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك ، فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة ، فقالوا : يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما تريد أن نفعل ، فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض : ما ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط إلا وفي كبيرهم وصغيرهم ، وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم ، وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ، ونرجع نحن على ديننا ، فابعث رجلا من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا ، فقال عليه السلام : آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول : ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها ، فلما صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره ، وجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال : اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة .

واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة في تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعا ، والله أعلم .