{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية النظم قولان الأول : ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه ، وأيضا روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة ، وأن الآخرة خير وأبقى .
القول الثاني : وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار } ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بين أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية ، واللذات الدنيوية ، ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها ، وتبقى تبعاتها ، ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] ثم بين طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله { زين للناس } من الذي زين ذلك ؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر ، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضا قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ، فإن كان ذلك شيطانا آخر لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان ، وإن كان من الله تعالى ، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك ، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا ، وهذا الكلام ظاهر جدا .
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال :
القول الأول : حكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زين لهم ، وكان يحلف على ذلك بالله ، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات ، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ، ومنتهى مقصوده ، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها : قوله تعالى : { ذلك متاع الحياة الدنيا } ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزينا له ورابعها : قوله بعد هذه الآية { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه ، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه .
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده ، وإباحتها للعبيد تزيين لها ، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهي ، وخلق للمشتهي علما بما في تناول المشتهى من اللذة ، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزينا لها وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة ، والله تعالى قد ندب إليها ، فكان مزينا لها ، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول : أن يتصدق بها والثاني : أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سببا لاشتغال العبد بالشكر العظيم ، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعرا هذا معناه والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثوابا ، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس : قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } [ البقرة : 29 ] وقال : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] وقال : { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } [ الكهف : 7 ] وقال : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] وقال في سورة البقرة { وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } [ البقرة : 22 ] وقال { كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } [ البقرة : 168 ] وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد { زين للناس } على تسمية الفاعل .
والقول الثالث : وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل ، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجبا أو مندوبا كان التزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراما كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي ، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم ، وكان من حقه أن يذكره ويبين أن التزيين فيه من الله تعالى ، أو من الشيطان .
المسألة الثالثة : قوله { حب الشهوات } فيه أبحاث ثلاثة :
البحث الأول : أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال ، كما يقال للمقدور قدرة ، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم ، وهذه استعارة مشهورة في اللغة ، يقال : هذه شهوة فلان ، أي مشتهاه ، قال صاحب «الكشاف » : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها والثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها .
البحث الثاني : قال المتكلمون : دلت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه ، والشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات .
البحث الثالث : قال الحكماء : الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب ، وأما من أحب شيئا وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة ، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة ، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { إني أحببت حب الخير } [ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير ، وإن كان ذلك في جانب الشر ، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله { زين للناس حب الشهوات } يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها : أنه يحب شهوته لها وثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس ، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق ، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس ، والعقل أيضا يدل عليه ، وهو أن كل ما كان لذيذا ونافعا فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان : جسماني وروحاني ، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر ، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية ، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة ، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة ، فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال : { زين للناس حب الشهوات } .
وأما قوله تعالى : { من النساء والبنين } ففيه بحثان :
البحث الأول : { من } في قوله { من النساء والبنين } كما في قوله { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضا معنى هذه الآية : زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة .
البحث الثاني : اعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أمورا سبعة أولها : النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى : { خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة .
المرتبة الثانية : حب الولد : ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى ، لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ، ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك .
واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة ، فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل ، وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات ، والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل .
المرتبة الثالثة والرابعة : { القناطير المقنطرة من الذهب والفضة } وفيه أبحاث :
البحث الأول : قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ، والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق ، فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب ، وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد ، واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده ، وفيه روايات : فروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القنطار اثنا عشر ألف أوقية » وروى أنس عنه أيضا أن القنطار ألف دينار ، وروى أبي بن كعب أنه عليه السلام قال : « القنطار ألف ومائتا أوقية » وقال ابن عباس : القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو مقدار الدية ، وبه قال الحسن ، وقال الكلبي : القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة ، وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة البتة .
البحث الثاني : { المقنطرة } منفعلة من القنطار ، وهو للتأكيد ، كقولهم : ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة ، وإبل مؤبلة ، ودراهم مدرهمة ، وقال الكلبي : القناطير ثلاثة ، والمقنطرة المضاعفة ، فكان المجموع ستة .
البحث الثالث : الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء ، وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب ، لا جرم كانا محبوبين .
المسألة الخامسة : { الخيل المسومة } قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه ، كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلا لخيلائها في مشيها ، وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا ، وسمي الخيال خيالا ، والتخيل تخيلا ، لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة ، والأخيل الشقراق ، لأنه يتخيل تارة أخضر ، وتارة أحمر ، واختلفوا في معنى { المسومة } على ثلاثة أقوال الأول : أنها الراعية ، يقال : أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي ، كما يقال : أقمت الشيء وقومته ، وأجدته وجودته ، وأنمته ونومته ، والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسنا ، ومنه قوله تعالى : { فيه تسيمون } [ النحل : 10 ] .
والقول الثاني : المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني : وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ، ومعناه واحد ، وهو الهيئة الحسنة ، قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [ الفتح : 29 ] ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة ، فقال أبو مسلم : المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل ، وهي أن تكون الأفراس غرا محجلة ، وقال الأصم : إنما هي البلق ، وقال قتادة : الشية ، وقال المؤرج : الكي ، وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال ، وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا ، وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفا في الفرس .
القول الثالث : وهو قول مجاهد وعكرمة : أنها الخيل المطهمة الحسان ، قال القفال : المطهمة المرأة الجميلة .
المرتبة السادسة : { الأنعام } وهي جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ولا يقال للجنس الواحد منها : نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .
المرتبة السابعة : { الحرث } وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله { ويهلك الحرث والنسل } [ البقرة : 205 ] .
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال : { ذلك متاع الحياة الدنيا } قال القاضي : ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ، ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه : منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموما ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضا مذموما ، ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم ، ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح .
ثم قال تعالى : { والله عنده حسن المآب } اعلم أن المآب في اللغة المرجع ، يقال : آب الرجل إيابا وأوبة وأبية ومآبا ، قال الله تعالى : { إن إلينا إيابهم } والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ، ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن .
فإن قيل : المآب قسما : الجنة وهي في غاية الحسن ، والنار وهي خالية عن الحسن ، فكيف وصف المآب المطلق بالحسن .
قلنا : المآب المقصود بالذات هو الجنة ، فأما النار فهي المقصود بالغرض ، لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، كما قال : سبقت رحمتي غضبي ، وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة .