اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (12)

قرأ الأخوان{[5144]} : " سَيُغلبُونَ " و " يُحْشَرُونَ " - بالغيبة - والباقون بالخطاب ، وهما واضحان كقولك : قل لزيد : قم ؛ على الحكاية ، وقل لزيد : يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } [ البقرة : 83 ]

وقال أبو حيّان : - في قراءة الغيبة- : " الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا ، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب " قل " بل محكية بقول آخَرَ ، التقدير : قل لهم قولي : سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ ، كما قال : " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف " فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون " .

وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ ، فأخذه منه ، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ ، قال رحمه الله : فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى ؟

قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ ، فهو إخبار بمعنى : ستُغْلَبُون وتُحْشَرون ، فهو كائن من نفس المتوعَّد به ، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه ، كأنه قال : أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك : " سيُغْلَبون ويُحْشَرون " .

وجوَّز الفرَّاءُ{[5145]} وثعلبُ أن يكون الضمير في " سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ " لكفار قريش ، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود ، والمعنى : قل لليهود : ستُغْلَبُ قريش . وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط .

قال مَكيٌّ : " ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ ، لإجماع الحَرَميَّينِ{[5146]} وعاصم وغيرهم على ذلك " .

قال شهابُ الدينِ{[5147]} : ومِثْل إجماعهم على قوله :

{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ } [ الأنفال : 38 ] إجماعُهم على قوله { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ } [ النور : 30 ] ، وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ }

[ الجاثية : 14 ] ، وقال الفرّاء : " مَن قرأ بالتاءِ جعل اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب ، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء ، كما تقول في الكلام : قل لعبد الله : إنه قائم ، وإنك قائم " .

وفي حرف عبد الله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن تَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود ، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين ، كأنه قيل : قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون ، ويُحْشَرُونَ ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب .

فصل في سبب النزول

في سبب نزول الآية أوجه :

الأول : قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وعكرمةُ عن ابن عباس- : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع ، وقال : يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل ، تجدون ذلك في كتابكم ، فقالوا : يا محمد ، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس ، فأنزل الله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، يعني اليهود " سَتُغْلَبُونَ " تُهْزَمُونَ ، " وَتُحْشَرُونَ " فِي الآخرة " إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ " أي : الفراش .

الثاني : قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً - : إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا : والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى ، وفي التوراة نعته ، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه ، وأرادوا اتباعه ، ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى ، فلما كان يوم أحد ، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شَكُّوا ، وقالوا : ليس هو ذلك ، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا ، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم ، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية{[5148]} .

الثالث : أن هذه الآية واردة في جميع الكفار .

فصل في تكليف ما لا يطاق

استدلوا على [ جواز ] {[5149]} تكليف ما لا يطاق بهذه الآية ، قالوا : لأن الله تعالى أخبر عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم ، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً ، وذلك محال ، فكأنَّ الإيمان منهم محال ، وقد أمِروا به ، فيكون تكليفاً بالمحال .

{ سَتُغْلَبُونَ } إخبار عن أمر يحصل في المستقبل ، وقد وقع مخبره على{[5150]} موافقته ، فكان هذا إخباراً عن الغيب ، فهو مُعْجز ، ونظيره - في حق عيسى - { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [ آل عمران : 49 ] .

قوله : { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } المخصوص بالذم محذوفٌ ، أي بئس المهاد جهنمُ ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه{[5151]} من أنه مبتدأ .

والجملة قبله خبره ، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر ، أو بالعكس ، لما حذف ثانياً ؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة .

و " بئس " مأخوذ من البأساء ، وهو الشر والشدة ، قال تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ }

[ الأعراف : 165 ] أي : شديد .


[5144]:انظر: السبعة 201، والكشف 1/335، والحجة 3/17، وحجة القراءات153، والعنوان 78، وإعراب القراءات 1/108، وشرح شعلة 308، وشرح الطيبة 4/146، وإتحاف 1/469.
[5145]:ينظر معاني القرآن 1/191.
[5146]:الحرميان هما الإمامان نافع وابن كثير رحمهما الله تعالى.
[5147]:ينظر: الدر المصون 2/24.
[5148]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/227-228) عن ابن عباس.
[5149]:سقط في أ.
[5150]:في أ: عن.
[5151]:ينظر: الكتاب 1/300.