الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغۡلَبُونَ وَتُحۡشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (12)

قوله تعالى : { سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ } قرأ الأخَوان هذين الفعلين بالغَيْبة ، والباقون بالخطاب ، والغيبة والخطاب في مثل هذا التركيب واضحانِ كقولِك : " قل لزيد : قم " على الحكاية ، وقل لزيد : يقوم ، وقد تقدم نحوٌ من هذا في قولِه : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ } [ البقرة : 83 ] . وقال الشيخ في قراءةِ الغَيْبة : " الظاهرُ أنَّ الضميرَ للذين كفروا ، وتكونُ الجملةُ إذ ذاك ليست محكيةً بقل ، بل محكيةٌ بقول آخر ، التقديرُ : قُلْ لهم قَوْلي سَيُغْلَبُون وإخباري أنه ستقعُ عليهم الغَلَبَةُ ، كما قال : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] فبالتاءِ أخبرهم بمعنى ما أُخْبر به من أنهم سَيُغْلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أُخبر به أنهم سَيُغْلبون " .

وهذا الذي قاله سبقَه إليه الزمخشري فأخَذَه منه ، ولكنَّ عبارةَ أبي القاسم أوضحُ فَلْنوردها ، قال رحمه الله : " فإنْ قلت : أيُّ فرق بين القراءتين من حيث المعنى ؟ قلت : معنى القراءة بالتاء أي من فوق الأمرُ بأَنْ يُخْبرهم بما سَيَجْري عليهم من الغَلَبة والحَشْر إلى جهنم ، فهو إخبار بمعنى سَتُغْلبون وتُحْشَرون فهو كائن من نفسِ المتوعَّدِ به ، وهو الذي يدل عليه اللفظُ ، ومعنى القراءةِ بالياء الأمرُ بأَنْ يحكي لهم ما أَخْبره به من وعيدِهم بلفظه كأنَّه قال : أدِّ إليهم هذا القولَ الذي هو قَوْلي لك سَيُغْلبون ويُحْشَرُون " .

وجَوَّز الفراء وثعلب أن يكونَ الضميرُ في " سَيُغْلبون ويُحْشرون " لكفار قريش ، ويرادُ بالذين كفروا اليهودُ ، والمعنى : قُلْ لليهود : " سَتُغْلَبُ قريش " ، هذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط . قال مكي : " ويُقَوِّي القراءة بالياء أي : من تحت إجماعُهم على الياء في قوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ } ، قال : " والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ لإِجماع الحرميين وعاصم وغيرهم على ذلك " قلت : ومثلُ إجماعهم على قوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ } إجماعُهم على قولِه : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ }

[ النور : 30 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } [ الجاثية : 14 ] .

وقال الفراء : " مَنْ قرأ بالتاء جَعَل اليهود والمشركين داخلين في الخطاب ، ثم يجوزُ في هذا المعنى الياءُ والتاءُ ، كما تقول في الكلام : " قل لعبد الله : إنه قائم وإنك قائم " ، وفي حرفِ عبد الله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } ، ومَنْ قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبةِ اليهود ، وأنَّ الغلبةَ تقع على المشركين ، كأنه قيل : قل يا محمد لليهود سَيُغْلَبُ المشركون ويُحْشرون ، فليس يجوزُ في هذا المعنى إلا الياءُ لأنَّ المشركين غَيْبٌ .

قوله : { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : بئس المهاد جهنمُ . والحذفُ للمخصوصِ يدلُّ على صحةِ مذهبِ سيبويه من أنه مبتدأٌ والجملةُ قبلَه خبرُه ، ولو كان كما قالَ غيرُه مبتدأً محذوفَ الخبرِ أو بالعكسِ لما حُذِف/ ثانياً للإِجحافِ بحَذْفِ سائِر الجملة .