مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ} (164)

قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .

اعلم أن في وجه النظم وجوها : الأول : أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه إلى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية ، وذلك لأن هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ، ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة .

الوجه الثاني : أنه لما بين خطأهم في نسبته إلى الخيانة والغلول قال : لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ، ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فإنه يزكيكم عن الطريق الباطلة ، ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم ، فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الإنسان إلى الخيانة .

الوجه الثالث : كأنه تعالى يقول : إنه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم ، وأنتم أرباب الخمول والدناءة ، فإذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والإحسان من جميع العالمين ، حصل لكم شرف عظيم بسبب كونه فيكم ، فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح إليه على خلاف العقل .

الوجه الرابع : أنه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ، فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان ، والمقصود منه العود إلى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : للمن في كلام العرب معان : أحدها : الذي يسقط من السماء وهو قوله : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } وثانيها : أن تمن بما أعطيت وهو قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } وثالثها : القطع وهو قوله : { لهم أجر غير ممنون } { وإن لك لأجرا غير ممنون } ورابعها : الإنعام والإحسان إلى من لا تطلب الجزاء منه ، ومنه قوله : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك } وقوله : { ولا تمنن تستكثر } والمنان في صفة الله تعالى : المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله : { لقد من الله على المؤمنين } أي أنعم عليهم وأحسن إليهم ببعثه هذا الرسول .

المسألة الثانية : أن بعثة الرسول إحسان إلى كل العالمين ، وذلك لأن وجه الإحسان في بعثته كونه داعيا لهم إلى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم إلى ثواب الله ، وهذا عام في حق العالمين ، لأنه مبعوث إلى كل العالمين ، كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلا كافة للناس } إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الإنعام إلا أهل الإسلام ، فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ، ونظيره قوله تعالى : { هدى للمتقين } مع أنه هدى للكل ، كما قال : { هدى للناس } وقوله : { إنما أنت منذر من يخشاها } .

المسألة الثالثة : اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم إنه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثة الرسل أكثر ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين : أحدهما : المنافع الحاصلة من أصل البعثة ، والثاني : المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره .

أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } قال أبو عبد الله الحليمي : وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه : الأول : أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية ، فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها ، وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها . والثاني : أن الخلق وإن كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ، ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة ، فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الإقدام على ما لا ينبغي . والثالث : أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى إنه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها . الرابع : أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ، ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل إلا عند سطوع نور الشمس ، ونوره عقلي إلهي يجري مجرى طلوع الشمس ، فيقوي العقول بنور عقله ، ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره ، فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة .

وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات ، فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله : { من أنفسهم } .

واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه : الأول : أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله ، فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف ، وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب ، والملازمة على الصدق ، ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة ، وبعده عن الخيانة والكذب ، ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب ، يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى . الثاني : أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا ، وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ، ثم إنه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ، ثم إنه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم ، فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والإلهام الإلهي . الثالث : أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك ، بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ، ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله ، والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا ، فإذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها ، فلما لم يفعل شيئا من ذلك علم أنه كان صادقا . الرابع : أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ، ومعلوم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله . الخامس : أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان ، وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة . ثم لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيباتها . ولا شك أن فيه أعظم المنة .

إذا عرفت هذه الوجوه فنقول : إن محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال ، مطلعين على هذه الدلائل ، فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال . فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال : { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم ، كما قال : { وإنه لذكر لك ولقومك } وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب . ثم إن اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل ، فما كان للعرب ما يقابل ذلك ، فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم ، فهذا هو وجه الفائدة في قوله : { من أنفسهم } .

ثم قال بعد ذلك : { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } .

واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين : في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، وبعبارة أخرى : للنفس الإنسانية قوتان ، نظرية وعملية ، والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين ، فقوله : { يتلو عليهم ءاياته } إشارة إلى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق ، وقوله : { ويزكيهم } إشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الإلهية { والكتاب } إشارة إلى معرفة التأويل ، وبعبارة أخرى { الكتاب } إشارة إلى ظواهر الشريعة { والحكمة } إشارة إلى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ، ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة . وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين ، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم ، فإذا كان وجه النعمة العلم والإعلام ، عقيب الجهل والذهاب عن الدين ، كان أعظم ونظيره قوله : { ووجدك ضالا فهدى } .