مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

قوله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين } .

واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتغليط والتشديد ، وإنما خاطبهم بالكلام اللين ، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم ، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم ، وتركه التغليظ عليهم فقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } وقال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ، وقال : { وإنك لعلى خلق عظيم } وقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال عليه الصلاة والسلام : " لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين ، وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا . وروي أن امرأة عثمان دخلت عليه صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي وعلي يغسلان السلاح ، فقالت : ما فعل ابن عفان ؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم ، فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم ، فقال عليه الصلاة والسلام «مه » وروي أنه قال حينئذ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ، ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : " لقد ذهبتم فيها عريضة " وروي عن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان ، كنا مشركين ، فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة ، وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا ، فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان ، قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة . وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران : اعتبار حال القائل ، واعتبار حال الفاعل ، أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " الأرواح جنود مجندة " وقال : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة ، واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات ، فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة ، أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله : { نور على نور } وقوله : { وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } وأما في القوة العملية ، فكما وصفه الله بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } كأنها من جنس أرواح الملائكة ، فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ، ولا تتأثر من حب المال والجاه ، فإن من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر ، فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات ، وإذا لم تمل إليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات ، وهذه الخواص نظرية ، وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال . وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام : «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب » فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب ، وإذا حصل له محبوب لم يأنس به ، لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحدا من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ، ومتى كان الإنسان كذلك كان حسن الخلق ، طيب العشرة مع الخلق ، ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق ، لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله : { فبما رحمة من الله لنت لهم } وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق ، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى ، فنقول : رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين ، فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد ، فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب ، فإذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء ، وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله ، فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ، ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره ، والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد ، لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف ، فقد فعله في حق المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف ، فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله ، لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ، ووجب إيصاله إليه ، ومتى لم يفعل امتنع إيصاله ، فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله .

المسألة الثالثة : ذهب الأكثرون إلى أن ( ما ) في قوله : { فبما رحمة من الله } صلة زائدة ومثله في القرآن كثير ، كقوله : { عما قليل } و { جند ما هنالك } { فبما نقضهم } { مما خطاياهم } قالوا : والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه ، قال تعالى : { فلما أن جاء البشير } أراد فلما جاء ، فأكد بأن ، وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر ، وههنا يجوز أن تكون ( ما ) استفهاما للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم إنه ما أظهر ألبتة ، تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني وتسديد إلهي ، فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد ، فقيل : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وهذا هو الأصوب عندي .

المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه الصلاة والسلام رحيما بالأمة ، فإذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة إلا لله سبحانه ، والذي يقرر ذلك وجوه : أحدها : أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئا من ذلك ، وإذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الأفعال لا محالة ، وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله : وثانيها : أن كل رحيم سوى الله تعالى فإنه يستفيد برحمته عوضا ، إما هربا من العقاب ، أو طلبا للثواب ، أو طلبا للذكر الجميل ، فإذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية ، فإن من رأى حيوانا في الألم رق قلبه ، وتألم بسبب مشاهدته إياه في الألم ، فيخلصه عن ذلك الألم دفعا لتلك الرقة عن قلبه ، فلو لم يوجد شيء من هذه الأعراض لم يرحم ألبتة ، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض ، فلا رحمة إلا لله ، وثالثها : أن كل من رحم غيره فإنه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا ، أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء ، إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الأعضاء ، وهي ليست إلا من الله تعالى ، فلا رحمة في الحقيقة إلا لله ، وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما ، قال عليه السلام : «الراحمون يرحمهم الرحمن » وقال في صفة محمد عليه السلام : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ثم قال تعالى : { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } .

واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد صلى الله عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل .

المسألة الأولى : قال الواحدي : رحمه الله تعالى : الفظ ، الغليظ الجانب السيء الخلق ، يقال : فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ ، وأصله فظظ ، كقوله : حذر من حذرت ، وفرق من فرقت ، إلا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحو رجل صب ، وأصله صبب ، وأما «الفض » بالضاد فهو تفريق الشيء ، وانفض القوم تفرقوا ، قال تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } ومنه : فضضت الكتاب ، ومنه يقال : لا يفضض الله فاك .

فان قيل : ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب ؟

قلنا : الفظ الذي يكون سيء الخلق ، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء ، فقد لا يكون الإنسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم ، فظهر الفرق من هذا الوجه .

المسألة الثانية : إن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه ، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما ، يتجاوز عن ذنبهم ، ويعفو عن إساءتهم ، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة ، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق ، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب ، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء ، كثير القيام بإعانة الفقراء ، كثير التجاوز عن سيآتهم ، كثير الصفح عن زلاتهم ، فلهذا المعنى قال : { ولو كنت فظا القلب لانفضوا من حولك } ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة . وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام { ولو كنت فظا غليظ القلب } وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك ، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم .

المسألة الثالثة : اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز ، قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } .

وههنا دقيقة أخرى : وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية ، وأمره بالغلظة في قوله : { واغلظ عليهم } فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين ، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين ، فهو كقوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وقوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } وتحقيق القول فيه أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، والفضيلة في الوسط ، فورود الأمر بالتغليظ تارة ، وأخرى بالنهي عنه ، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط ، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم ، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } .

ثم قال تعالى : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء : أولها : بالعفو عنهم وفيه مسائل .

المسألة الأولى : أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى ، قال عليه السلام : " تخلقوا بأخلاق الله " ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله .

المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف » : ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم ) فيما يتعلق بحق الله تعالى .

المسألة الثالثة : ظاهر الأمر للوجوب ، والفاء في قوله تعالى : { فاعف عنهم } يدل على التعقيب ، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال ، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم ، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم .

واعلم أن قوله : { فاعف عنهم } إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم ، بل ندبهم إليه فقال تعالى : { والعافين عن الناس } ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين . وثانيها : قوله تعالى : { واستغفر لهم } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر ، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } إلى قوله : { فقد باء بغضب من الله } فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم ، ثم أمره بالاستغفار لهم ، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا .

المسألة الثانية : قوله تعالى : { واستغفر لهم } أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر ، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه ، لأن ذلك لا يليق بالكريم ، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر ، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى .

المسألة الثالثة : أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله : { ولقد عفا الله عنهم } ثم أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم ، كأنه قيل له : يا محمد استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة ، وثالثها : قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : يقال : شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة ، والقوم شورى ، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله : { وإذ هم نجوى } قيل : المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته ، وقيل مأخوذة من قولهم : شرت الدابة شرت الدابة شورا إذا عرضتها ، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا ، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره ، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها .

المسألة الثانية : الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه : الأول : أن مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم ، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة . الثاني : أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله ، لاسيما فيما يفعل من أمور الدنيا فإنه عليه السلام قال : «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم » الثالث : قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته . الرابع : أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج ، وكان ميله إلى أن يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع ، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر . فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة . الخامس : وشاورهم في الأمر ، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما ، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم . السادس : وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله ، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات . وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . السابع : لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة ، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق . الثامن : الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده ، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم ، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة ، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة ، بل أنا أزيد فيها ، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم ، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم ، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك ، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم ، والآن تعولون على فضلي وعفوي ، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك ، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم . والوجوه الثلاثة الأول مذكورة ، والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .

المسألة الثالثة : اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس ، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا ؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ «الأمر » ليسا للاستغراق ، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه ، فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق ، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو ، فكان قوله : { وشاورهم في الأمر } مختصا بذلك ، ثم قال القائلون بهذا القول : قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، فأشار عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا ، فقبل منهما وخرق الصحيفة ، ومنهم من قال : اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي ، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ، ومدح المستنبطين فقال : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وكان أكثر الناس عقلا وذكاء ، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي ، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة . وقد شاورهم يوم بدر في الأساري وكان من أمور الدين ، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } فصار ملعونا ، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب .

المسألة الرابعة : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : { وشاورهم } يقتضي الوجوب ، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " البكر تستأمر في نفسها " ولو أكرهها الأب على النكاح جاز ، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا .

المسألة الخامسة : روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وعندي فيه إشكال ، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون ، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية ، والله أعلم .

ثم قال : { فإذا عزمت فتوكل على الله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته ، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور .

المسألة الثانية : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقوله بعض الجهال ، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها ، بل يعول على عصمة الحق .

المسألة الثالثة : حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ { فإذا عزمت } بضم التاء ، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل ، وهذا ضعيف من وجهين : الأول : وصف الله بالعزم غير جائز ، ويمكن أن يقال : هذا العزم بمعنى الإيجاب والإلزام ، والمعنى وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه . فتوكل علي ، ولا تشاور بعد ذلك أحدا . والثاني : أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { إن الله يحب المتوكلين } والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله .