مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَلَىٰ قَدۡ جَآءَتۡكَ ءَايَٰتِي فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (59)

ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل ، لأن الهداية كانت حاضرة والأعذار زائلة وهو المراد بقوله { بلى قد جاءتك ءاياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } وهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي ، لأن معنى قوله { لو أن الله هداني } أنه ما هداني ، فلا جرم حسن ذكر لفظة { بلى } بعده .

المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله { بلى قد جاءتك ءاياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب المذكر ، وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على التأنيث ، قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند ، لأن الربيع لم يدرك أم سلمة ، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ، ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله { سولت لي نفسي } و { إن النفس لأمارة بالسوء } و { يا أيتها النفس المطمئنة } .

المسألة الثالثة : قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه الأول : أنه لا يقال : فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله ، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى ، ( وثانيها ) أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد ، ( وثالثها ) إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك ( ورابعها ) قوله تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وذلك لا يتم إلا بما هو المختار لل?تباع ( وخامسها ) ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل ، ( وسادسها ) قولهم { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله ، ( وسابعها ) قوله تعالى : { على ما فرطت في جنب الله } ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون مفرطا ، ( وثامنها ) ذمه لهم بأنهم من الساخرين ، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه ، ( وتاسعها ) قوله { لو أن الله هداني } أي مكنني { لكنت من المتقين } وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه ، ( وعاشرها ) قوله { لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } وعلى قولهم لو رده الله أبدا كرة بعد كرة ، وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسنا ، ( والحادي عشر ) قوله تعالى موبخا لهم { بلى قد جاءتك ءاياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين } فبين تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله ، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا : قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها . والثاني عشر : أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالا لهم لما صح الكلام ، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة ، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج ، ولما كان هذا التفسير مملوءا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة .