اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلَىٰ قَدۡ جَآءَتۡكَ ءَايَٰتِي فَكَذَّبۡتَ بِهَا وَٱسۡتَكۡبَرۡتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (59)

قوله : { بَلَى } حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان :

أحدهما : هو نفي مقدر ، قال ابن عطية : وحق «بلى » أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، كأن النفس قالت : لم يتسع لي النظر{[47619]} أو لم يبين لي الأمر{[47620]} ، قال أبو حيان : ليس{[47621]} حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى ، وكذا وقع في عبارة سيبويه{[47622]} نفسه .

والثاني : أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال : لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك{[47623]} .

قال الزجاج : «بلى » جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأن قوله : «لو أن الله هداني » أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر «بلى » بعده{[47624]} .

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا{[47625]} قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله : لو أن الله هداني ولم يفصل بينهما قلت : لأنه لا يخلو إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن يؤخر{[47626]} القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير{[47627]} النظم بالجمع بين القراءتين ، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب{[47628]} .

قوله : { جَآءَتْكَ } قرأ العامة بفتح الكاف «فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ » بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس . وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سلمة عنه - عليه ( الصلاة و ) السلام- وبها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ- رضي الله عنهما- بكسر الكاف والتاء{[47629]} ؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ «جَأتْكَ »{[47630]} بوزن «جَعَتْكَ » بهمزة دون ألف ؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل { أَن رَّآهُ استغنى }{[47631]} [ العلق : 7 ] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف لالتقائهما نحو : رُمْتُ وغُزْت{[47632]} ، ومعنى الآية يقال لهذا القائل : بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن «فكذبت » وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين .


[47619]:في البحر: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر. وانظر البحر 7/436.
[47620]:المرجع السابق.
[47621]:السابق.
[47622]:وعبارته: قيل له: ألست تعلم أن الصفة ... فإنه لا يجد بدا من أن يقول: نعم... أفلست تجعل هذا العمل.... فإنه قائل نعم. الكتاب 2/659.
[47623]:قاله ابن الأنباري في البيان 2/325 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/359 والسمين في الدر 4/659.
[47624]:بإيضاح وتفصيل من الفخر الرازي لكلمة الزجاج في المرجع السابق وانظر التفسير الكبير له 27/7.
[47625]:في ب فهلا بزيادة فاء عن الكشاف.
[47626]:في الكشاف تؤخر بالتاء.
[47627]:كذا هنا في "أ" وفي الكشاف تبتير وفي ب تيسر خطأ.
[47628]:الكشاف 3/405.
[47629]:من القراءة الشاذة غير المتواترة ذكرها الكشاف 3/405 والبحر 7/436 والدر المصون 4/659 ومختصر ابن خالويه 131 ومعاني القرآن للفراء 2/423.
[47630]:وهي من الأربع فوق العشر انظر الإتحاف 376 وانظر المختصر والبحر والدر المراجع السابقة.
[47631]:وانظر السبعة 692 والبحر 8/493.
[47632]:البحر المحيط 7/437 وفي وجه القصر يكون محذور واحد وهو الحذف أي حذف المد، أما وجه القلب والحذف فمحذوران تقديم العين على اللام فيصير قلبا مكانيا كأيس، ثم حذف العين هذه، فكان وجه القصر أحسن.