قوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم } .
المسألة الأولى : الإحصان في اللغة المنع ، وكذلك الحصانة ، يقال : مدينة حصينة ودرع حصينة ، أي مانعة صاحبها من الجراحة . قال تعالى : { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم } معناه لتمنعكم وتحرزكم ، والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء ، والحصان بالكسر الفرس الفحل ، لمنعه صاحبه من الهلاك ، والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد ، قال تعالى : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها } .
واعلم أن لفظ الإحصان جاء في القرآن على وجوه : أحدها : الحرية كما في قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات } يعني الحرائر ، ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين ، وكذلك قوله : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } يعني الحرائر ، وكذلك قوله : { ومن لم يستطيع منكم طولا أن ينكح المحصنات } أي الحرائر ، وثانيها : العفاف ، وهو قوله { محصنات غير مسافحات } وقوله : { محصنين غير مسافحين } وقوله : { والتي أحصنت فرجها } أي أعفته ، وثالثها الإسلام : من ذلك قوله : { فإذا أحصن } قيل في تفسيره : إذا أسلمن ، ورابعها : كون المرأة ذات زوج يقال : امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج ، وقوله : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } يعني ذوات الأزواج ، والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات ، فلا بد وأن يكون الإحصان سببا للحرمة ، ومعلوم أن الحرية والعفاف والإسلام لا تأثير له في ذلك ، فوجب أن يكون المراد منه المزوجة ، لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير .
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي ، وهو المنع ، وذلك لأنا ذكرنا أن الإحصان عبارة عن المنع ، فالحرية سبب لتحصين الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه ، والعفة أيضا مانعة للإنسان عن الشروع فيما لا ينبغي ، وكذلك الإسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة ، والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور ، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «من تزوج فقد حصن ثلثي دينه » فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم .
المسألة الثانية : قال الواحدي : اختلف القراء في { المحصنات } فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا على الفتح فيها ، فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني : أسلمن واخترن العفاف ، وتزوجن وأحصن أنفسهن بسبب هذه الأمور . ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن ، يعني أحصنهن أزواجهن ، والله أعلم .
المسألة الثالثة : قال الشافعي- رحمة الله عليه- : الثيب الذمي إذا زنى يرجم ، وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه- : لا يرجم . حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الإحصان وذلك علة لإباحة الدم ، فوجب أن يثبت إباحة الدم ، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم . أما قولنا : حصل الزنا مع الإحصان ، فهذا يعتمد إثبات قيدين : أحدهما : حصول الزنا ولا شك فيه . الثاني : حصول الإحصان وهو حاصل ، لأن قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } يدل على أن المراد من المحصنة : المزوجة ، وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة ، فثبت أنه حصل الزنا مع الإحصان ، وإنما قلنا : إن الزنا مع الإحصان علة لإباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام :
«لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى معان ثلاثة » ومنها قوله : «وزنا بعد إحصان » جعل الزنا بعد الإحصان علة لإباحة الدم في حق المسلم ، والمسلم محل لهذا الحكم ، أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الإحصان ، بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه . أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم ، أن الزنا بعد الإحصان علة لإباحة الدم ، إلا أن كونه مسلما محل الحكم ، وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل ، وإلا لبطل القياس بالكلية . وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل ، وهي ماهية الزنا بعد الإحصان ، وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي ، وجب أن يحصل في حقه إباحة الدم ، فثبت أنه مباح الدم . ثم ههنا طريقان : إن شئنا اكتفينا بهذا القدر ، فإنا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به ، فصار محجوجا ، أو نقول : لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق .
فإن قيل : ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن ، فههنا ما يدل على أنه غير محصن ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : «من أشرك بالله فليس بمحصن » .
قلنا : ثبت بالدليل الذي ذكرناه أن الذمي محصن ، وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن ، فنقول : إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج ، وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفه ، وقوله : من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه ، لا على أنه لا يحد على الزنا ، لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية ، والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة ، وقولنا : أنه لا يجد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة ، أما قولنا : لا يحد على الزنا ، لا يصلح أن يكون عقوبة له ، فكان المراد من قوله : من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم .
المسألة الرابعة : في قوله : { والمحصنات من النساء } قولان : أحدهما : المراد منها ذوات الأزواج ، وعلى هذا التقدير ففي قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } وجهان : الأول : أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها ، إلا إذا صارت ملكا لإنسان فإنها تحل للمالك ، الثاني : أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح ، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين أزواجهن ، والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد ، أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة ، وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك .
القول الثاني : أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر ، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم } ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك ، ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر ، فكذا ههنا . وعلى هذا التقدير ففي قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } وجهان : الأول : المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع ، فصار التقدير : حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع ، الثاني : الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن ، وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة ، فهذا الأول في تفسير قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } هو المختار ، ويدل عليه قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها ، فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك ، لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق إلى الصدق والصواب ، والله أعلم .
المسألة الخامسة : اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة . أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه : ههنا تزول الزوجية ، ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها ، أو بالحيض . وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه : لا تزول . حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله : { والمحصنات من النساء } يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل ، قال أبو بكر الرازي : لو حصلت الفرقة بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فيقال له : كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي ، وأيضا : فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى ، فظهر الفرق .
المسألة السادسة : مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق ، وعليه إجماع الفقهاء اليوم ، وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس : إنها إذا بيعت طلقت . حجة الجمهور : أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقها خيرها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مزوجة ، ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة . ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بيع الأمة طلاقها " وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله : { إلا ما ملكت أيمانكم } وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم . ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله : { كتاب الله عليكم } وفيه وجهان : الأول : أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فإن قوله : { حرمت عليكم } يدل على معنى الكتبة فالتقدير : كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله ، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره { وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله } الثاني : قال الزجاج : ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر ، ويكون «عليكم » مفسرا له فيكون المعنى : الزموا كتاب الله .
ثم قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم { وأحل لكم } على ما لم يسم فاعله ، عطفا على قوله : { حرمت عليكم } والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على { كتاب الله } يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها .
المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة . إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها .
الصنف الأول : لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " وهذا خبر مشهور مستفيض ، وربما قيل : إنه بلغ مبلغ التواتر ، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، واحتجوا عليه بوجوه : الأول : أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة ، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة ، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن ، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز . الثاني : من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال : بم تحكم ؟ قال بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة ، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب ، وأيضا فإنه قال : فإن لم تجد قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة «إن » وهي للاشتراط ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط .
الثالث : أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه » فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب ، فإذا كان خبر العمة والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده . الرابع : أن قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } مع قوله عليه السلام : لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه : إما أن يقال : الآية نزلت بعد الخبر ، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص ، وإما أن يقال : الخبر ورد بعد الكتاب ، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز ، وإما أن يقال : وردا معا ، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة ، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر ، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر ، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم .
الوجه الخامس : أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا ، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر . وبيانه من وجهين : الأول : أن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } نص صريح في التحليل كما أن قوله : { حرمت عليكم } نص صريح في التحريم . وأما قوله : «لا تنكح المرأة على عمتها » فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار ، وحمل الإخبار على النهي مجاز ، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الإحلال على معنى الإباحة . الثاني : أن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات ، وقوله : «لا تنكح المرأة على عمتها » ليس صريحا في العموم ، بل احتماله للمعهود السابق أظهر .
الوجه السادس : أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا ، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين ، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب .
والجواب على وجوه : الأول : ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم ، وهو أن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } لا يقتضي إثبات الحل على سبيل التأبيد ، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب ، والدليل عليه أن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأبيد أم لا ، والدليل على أنه لا يفيد التأبيد : أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد ، فيقال تارة : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أبدا ، وأخرى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلى الوقت الفلاني ، ولو كان قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا ، ولأن قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الإحلال أعم من الإحلال المؤبد ومن الإحلال المؤقت ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت ، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والإثبات ، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت ، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له ، فهذا وجه حسن معقول مقرر . وبهذا الطريق نقول أيضا : إن قوله :
{ حرمت عليكم أمهاتكم } ليس نصا في تأبيد هذا التحريم ، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، لا من هذا اللفظ ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع .
الوجه الثاني : إنا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين ، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة ، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة ، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة ، وبين الحالتين منافرة عظيمة ، فثبت أن كونها أختا لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح ، وقد ثبت في أصول الفقه إن ذكر الحكم مع الوصف المناسب له ، يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح ، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة ، بل ههنا أولى ، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت ، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة ، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة ، فكان قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين } مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى .
الثاني : أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال : { وأمهات نسائكم } ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام : { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } فأطلق لفظ الأب على إسماعيل مع أنه كان عما ، وإذا كان العم أبا لزم أن تكون العمة أما ، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى : { ورفع أبويه على العرش } والمراد أبوه وخالته ، فإن أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت ، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، فكان قوله : { وأمهات نسائكم } متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه .
وإذا عرفت هذا فنقول : قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية ، أو بدلالة خفية ، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات .
الوجه الثالث : في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول : قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } عام ، وقوله : «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها » خاص ، والخاص مقدم على العام ، ثم ههنا طريقان : تارة نقول : هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر ، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز ، وعندي هذا الوجه كالمكابرة ، لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد . وتارة نقول : تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز ، وتقريره مذكور في الأصول ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول .
الصنف الثالث : من التخصيصات الداخلة في هذا العموم : أن المطلقة ثلاثا لا تحل ، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } .
الصنف الرابع : تحريم نكاح المعتدة ، ودليله قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } .
الصنف الخامس : من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ، وهذا بالاتفاق . وعند الشافعي : القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ودليل هذا التخصيص قوله : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم } وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب .
الصنف السادس : يحرم عليه التزوج بالخامسة ، ودليله قوله تعالى : { مثنى وثلاث ورباع } .
الصنف السابع : الملاعنة : ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " .
قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } .
المسألة الأولى : قوله : { أن تبتغوا } في محله قولان : الأول : أنه رفع على البدل من «ما » والتقدير : وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا ، على قراءة من قرأ ( وأحل ) بضم الألف . ومن قرأ بالفتح كان محل «أن تبتغوا » نصبا . الثاني : أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل : لأن تبتغوا ، والمعنى : وأحل لكم ما وراء ذلكم لإرادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله : { محصنين غير مسافحين } أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين ، وقوله : { محصنين } أي متعففين عن الزنا ، وقوله : { غير مسافحين } أي غير زانين ، وهو تكرير للتأكيد . قال الليث : السفاح والمسافحة الفجور ، وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال : دموع سوافح ومسفوحة ، قال تعالى :
{ أو دما مسفوحا } وفلان سفاح للدماء أي سفاك ، وسمي الزنا سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة .
قلنا : التقدير : وأحل لكم ما وراء ذلكم لإرادة أن تبتغوهن ، أي تبتغوا ما وراء ذلكم ، فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم .
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا مهر أقل من عشرة دراهم ، وقال الشافعي رضي الله عنه : يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه . احتج أبو حنيفة بهذه الآية ، وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد ، وهو الابتغاء بأموالهم ، والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا ، فوجب أن لا يصح جعلها مهرا .
فإن قيل : ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال ، مع أنكم تجوزون كونها مهرا .
قلنا : ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية ، إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الإجماع على جوازه ، فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية .
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف ، لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز ، وليس فيها دلالة على أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز ، إلا على سبيل المفهوم ، وأنتم لا تقولون به . ثم نقول : الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : { بأموالكم } مقابلة الجمع بالجمع ، فيقتضي توزع الفرد على الفرد ، فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا ، والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء ، فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير .
الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور ، وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم ، وأنتم لا تقولون به .
الحجة الثالثة : الأحاديث : منها ما روي أن امرأة جيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج بها رجل على نعلين ، فقال عليه الصلاة والسلام : «رضيت من نفسك بنعلين » فقالت : نعم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ، والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم ، فإن مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر ، ونعل هذا الإنسان يكون قليل القيمة جدا . ومنها ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل » ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها : «التمس ولو خاتما من حديد » وذلك لا يساوي عشرة دراهم .
المسألة الثالثة : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها ، ثم قال : إذا تزوج امرأة على خدمته سنة ، فإن كان حرا لها مهر مثلها ، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة . وقال الشافعي رحمة الله عليه : يجوز جعل ذلك مهرا ، احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه : الأول : هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال ، والمال اسم للأعيان لا للمنافع ، الثاني : قال تعالى : { فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وذلك صفة الأعيان .
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز ، وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا ، وعن الثاني : أن لفظ الإيتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة ، وعن الثالث : أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب ، ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه :
الحجة الأولى : قوله تعالى في قصة شعيب : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء إلى أن يطرأ الناسخ .
الحجة الثانية : أن التي وهبت نفسها ، لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا ، قال عليه الصلاة والسلام : «هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا ، قال زوجتكها بما معك من القرآن » والله أعلم .
المسألة الرابعة : قال أبو بكر الرازي : دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها ، لأن الآية تقتضي كون البضع مالا ، وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها ، فذاك من خواص الرسول عليه السلام .
المسألة الخامسة : قوله : { محصنين } فيه وجهان : أحدهما : أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح ، والثاني : أن يكون الإحصان شرطا في الإحلال المذكور في قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } والأول أولى ، لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى ، وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة ، لأن الإحصان المذكور فيه غير مبين ، والمعلق على المجمل يكون مجملا ، وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا .
قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } .
المسألة الأولى : الاستمتاع في اللغة الانتفاع ، وكل ما انتفع به فهو متاع ، يقال : استمتع الرجل بولده ، ويقال فيمن مات في زمان شبابه : لم يتمتع بشبابه . قال تعالى : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } وقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } يعني تعجلتم الانتفاع بها ، وقال : { فاستمتعتم بخلافكم } يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا . وفي قوله : { فما استمتعتم به منهن } وجهان : الأول : فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن ، فآتوهن أجورهن عليه ، ثم أسقط الراجع إلى «ما » لعدم الالتباس كقوله : { إن ذلك لمن عزم الأمور } فأسقط منه . والثاني : أن يكون «ما » في قوله : { ما وراء ذلكم } بمعنى النساء و«من » في قوله : { منهن } للتبعيض ، والضمير في قوله : { به } راجع إلى لفظ { ما } لأنه واحد في اللفظ ، وفي قوله : { فآتوهن أجورهن } إلى معنى «ما » لأنه جمع في المعنى ، وقوله : { أجورهن } أي مهورهن ، قال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا } إلى قوله : { فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن } وهي المهور ، وكذا قوله : { فآتوهن أجورهن } ههنا ، وقال تعالى في آية أخرى : { لا جناح عليكم إن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع ، وليس ببدل من الأعيان ، كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قال الشافعي : الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر . وقال أبو حنيفة تقرره . واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن ، ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن ، فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع ، وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع ، والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع ، فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر .
المسألة الثالثة : في هذه الآية قولان : أحدهما : وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله : { أن تبتغوا بأموالكم } المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح ، وقوله : { فما استمتعتم به منهن فئاتوهن أجورهن } فإن استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام ، وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر .
والقول الثاني : أن المراد بهذه الآية حكم المتعة ، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها ، واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة ، فشكا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طول العزوبة فقال : «استمتعوا من هذه النساء » ، واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا ؟ فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة ، وقال السواد منهم : إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين ، أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات : إحداها : القول بالإباحة المطلقة ، قال عمارة : سألت ابن عباس عن المتعة : أسفاح هي أم نكاح ؟ قال : لا سفاح ولا نكاح ، قلت : فما هي ؟ قال : هي متعة كما قال تعالى ، قلت : هل لها عدة ؟ قال نعم عدتها حيضة ، قلت : هل يتوارثان ؟ قال لا .
والرواية الثانية عنه : أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس : قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق ، لكني قلت : إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له .
والرواية الثالثة : أنه أقر بأنها صارت منسوخة . روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله : { فما استمتعتم به منهن } قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وروي أيضا أنه قال عند موته : اللهم إني أتوب إليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فإنه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا بها ، ومات ولم ينهنا عنه ، ثم قال رجل برأيه ما شاء . وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة ، وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي ، وروى محمد بن علي المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة ، فقال أمير المؤمنين : أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية ، فهذا ما يتعلق بالروايات . واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه : الأول : أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة ، وليست أيضا زوجة ، ويدل عليه وجوه : أحدها : لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } وبالاتفاق لا توارث بينهما ، وثانيها : ولثبت النسب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «الولد للفراش » وبالاتفاق لا يثبت ، وثالثها : ولوجبت العدة عليها ، لقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر .
الحجة الثانية : ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما ، ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد ، فالحال ههنا لا يخلو إما أن يقال : إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا ، أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة ، أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها . فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك ، والأول هو المطلوب ، والثاني يوجب تكفير عمر ، وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة ، ثم قال : إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ، ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا ، كان كافرا أيضا . وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله : { كنتم خير أمة } .
والقسم الثالث : وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا ، فهذا أيضا باطل ، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح ، واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ، ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا ، بل يجب أن يشتهر العلم به ، فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح ، وأن إباحته منسوخة ، وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الإسلام .
فإن قيل : ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال : لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته ، ولا شك أن الرجم غير جائز ، مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك ، فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الإنكار على الباطل .
قلنا : لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة ، ومثل هذه السياسات جائزة للإمام عند المصلحة ، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من منع منا الزكاة فأنا آخذوها منه وشطر ماله » ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز ، لكنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للمبالغة في الزجر ، فكذا ههنا والله أعلم .
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة : ما روى مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي : أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية . وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال : غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول :
«يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «متعة النساء حرام » وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط ، وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا ، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ، ومجرد النكاح ليس كذلك ، أما القائلون بإباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه .
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان :
الطريق الأول : أن نقول : نكاح المتعة داخل في هذه الآية ، وذلك لأن قوله : { أن تبتغوا بأموالكم } يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد ، ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت ، وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي حل القسمين ، وذلك يقتضي حل المتعة .
الطريق الثاني : أن نقول : هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة ، وبيانه من وجوه : الأول : ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن } وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس ، والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة ، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة ، وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا ، وكذا ههنا ، وإذا ثبت بالإجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب . الثاني : أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال ، ثم إنه تعالى أمر بإيتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن ، وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء ، ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة ، فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد ، ومع الولي والشهود ، ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل ، فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة . الثالث : أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع ، والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع ، فأما في النكاح فإيتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع البتة ، بل على النكاح ، ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر ، فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا ، لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ . ومجرد النكاح ليس كذلك . الرابع : أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة ، لأنه تعالى قال في أول هذه السورة : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } ثم قال : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا ، فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم .
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة : أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ، ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه ، إنما الخلاف في طريان الناسخ ، فنقول : لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر ، أو بالآحاد ، فإن كان معلوما بالتواتر ، كان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك يوجب تكفيرهم ، وهو باطل قطعا ، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل ، لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالإجماع والتواتر ، كان ثبوته معلوما قطعا ، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعا للمقطوع وإنه باطل . قالوا : ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح ، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر ، وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر ، لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ ، وقول من يقول : أنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف ، لم يقل به أحد من المعتبرين ، إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات .
الحجة الثالثة : ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر : متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهي عنهما : متعة الحج ، ومتعة النكاح ، وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوله : وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نسخه ، وإنما عمر هو الذي نسخه . وإذا ثبت هذا فنقول : هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه عليه السلام ما نسخه ، وأنه ليس ناسخ إلا نسخ عمر ، وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما نسخه الرسول ، يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر ، وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال : إن الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى ، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء ، يريد أن عمر نهى عنها ، فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة .
والجواب عن الوجه الأول أن نقول : هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه : الأول : أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } ثم قال في آخر الآية : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم ، لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح ، فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح . الثاني : أنه قال : { محصنين } والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح . والثالث : قوله : { غير مسافحين } سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء ، ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح ، والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا ، هذا ما قاله أبو بكر الرازي . أما الذي ذكره في الوجه الأول : فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الإنسان وطؤهن ، ثم قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف ، فأي فساد في هذا الكلام ؟ وأما قوله ثانيا : الإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا ، وأما قوله ثالثا : الزنا إنما سمي سفاحا ، لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء ، والمتعة ليست كذلك ، فإن المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله ، فإن قلتم : المتعة محرمة ، فنقول : هذا أول البحث ، فلم قلتم : إن الأمر كذلك ، فظهر أن الكلام رخو ، والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول : إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله : إنها صارت منسوخة ، وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا ، وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس ، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله : إن النسخ طرأ عليه ، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا ، وقولهم : الناسخ إما أن يكون متواترا أو آحادا .
قلنا : لعل بعضهم سمعه ثم نسيه ، ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له .
قوله : إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه .
قلنا : قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ، ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه ، وكل ذلك باطل ، فلم يبق إلا أن يقال : كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه صلى الله عليه وسلم نسخها ، وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم .
ثم قال تعالى : { فآتوهن أجورهن فريضة } والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة ، وذكر صاحب «الكشاف » في قوله : { فريضة } ثلاثة أوجه : أحدها : أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة . وثانيها : أنها وضعت موضع إيتاء ، لأن الإيتاء مفروض . وثالثها : أنه مصدر مؤكد ، أي فرض ذلك فريضة .
ثم قال تعالى : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما } .
المسألة الأولى : الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا : المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين ، فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية ، فعلى هذا : المراد من التراضي الحط من المهر أو الإبراء عنه ، وهو كقوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وقوله : { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وقال الزجاج معناه : لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها ، أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول . وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا : المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل البتة ، فإن قال لها : زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة كانت المرأة بالخيار ، إن شاءت فعلت ، وإن شاءت لم تفعل ، فهذا هو المراد من قوله : { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل .
المسألة الثانية : قال أبو حنيفة رضي الله عنه : إلحاق الزيادة في الصداق جائز ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة ، وكان لها نصف المسمى في العقد . وقال الشافعي رحمة الله عليه : الزيادة بمنزلة الهبة ، فإن أقبضها ملكته بالقبض ، وإن لم يقبضها بطلت . احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله : { لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان ، فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق ، قال : بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان ؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما ، والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج ، والزيادة لا تصح إلا بقبوله ، فإذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة .
والجواب : لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج ؟ وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول ، فإن شاءت المرأة أبرأته عن النصف ، وان شاء الزوج سلم إليها كل المهر ، وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه إليها ، وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة . والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول ، أو بعد زوال العقد ، والأول باطل ، لأن العقد لما انعقد على القدر الأول ، فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني ، لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته ، وذلك يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال . والثاني باطل لانعقاد الإجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول ، فثبت فساد ما قالوه والله أعلم . ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والإحلال ، بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفي عليه منها خافية أصلا ، وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة ، وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم .