مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبۡهُ عَذَابًا أَلِيمٗا} (17)

قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما } .

ثم إن الله تعالى قال : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } .

بين من يجوز له التخلف وترك الجهاد وما بسببه يجوز ترك الجهاد وهو ما يمنع من الكر والفر وبين ذلك ببيان ثلاثة أصناف ( الأول ) { الأعمى } فإنه لا يمكنه الإقدام على العدو والطلب ولا يمكنه الاحتراز والهرب ، والأعرج كذلك والمريض كذلك ، وفي معنى الأعرج الأقطع والمقعد ، بل ذلك أولى بأن يعذر ، ومن به عرج لا يمنعه من الكر والفر لا يعذر ، وكذلك المرض القليل الذي لا يمنع من الكر والفر كالطحال والسعال إذ به يضعف وبعض أوجاع المفاصل لا يكون عذرا وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن هذه أعذار تكون في نفس المجاهد ولنا أعذار خارجة كالفقر الذي لا يتمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج إليه والاشتغال بمن لولاه لضاع كطفل أو مريض ، والأعذار تعلم من الفقه ونحن نبحث فيما يتعلق بالتفسير في بيان مسائل :

المسألة الأولى : ذكر الأعذار التي في السفر ، لأن غيرها ممكن الإزالة بخلاف العرج والعمى .

المسألة الثانية : اقتصر منها على الأصناف الثلاثة ، لأن العذر إما أن يكون باختلال في عضو أو بإخلال في القوة ، والذي بسبب إخلال العضو ، فإما أن يكون بسبب اختلال في العضو الذي به الوصول إلى العدو والانتقال في مواضع القتال ، أو في العضو الذي تتم به فائدة الحصول في المعركة والوصول ، ( والأول ) هو الرجل ، ( والثاني ) هو العين ، لأن بالرجل يحصل الانتقال ، وبالعين يحصل الانتفاع في الطلب والهرب . وأما الأذن والأنف واللسان وغيرها من الأعضاء ، فلا مدخل لها في شيء من الأمرين ، بقيت اليد ، فإن المقطوع اليدين لا يقدر على شيء ، وهو عذر واضح ولم يذكره ، نقول : لأن فائدة الرجل وهي الانتقال تبطل بالخلل في إحداهما ، وفائدة اليد وهي الضراب والبطش لا تبطل إلا ببطلان اليدين جميعا ، ومقطوع اليدين لا يوجد إلا نادرا ، ولعل في جماعة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مقطوع اليدين فلم يذكره ، أو لأن المقطوع ينتفع به في الجهاد ، فإنه ينظر ولولاه لاستقل به مقاتل فيمكن أن يقاتل ، وهو غير معذور في التخلف ، لأن المجاهدين ينتفعون به بخلاف الأعمى ، فإن قيل كما أن مقطوع اليد الواحدة لا تبطل منفعة بطشه كذلك الأعور لا تبطل منفعة رؤيته ، وقد ذكر الأعمى ، وما ذكر الأشل وأقطع اليدين ، قلنا لما بينا أن مقطوع اليدين نادر الوجود والآفة النازلة بإحدى اليدين لا تعمهما والآفة النازلة بالعين الواحدة تعم العينين لأن منبع النور واحد وهما متجاذبان والوجود يفرق بينهما ، فإن الأعمى كثير الوجود ومقطوع اليدين نادر .

المسألة الثالثة : قدم الآفة في الآلة على الآفة في القوة ، لأن الآفة في القوة تزول وتطرأ ، والآفة في الآلة إذ طرأت لا تزول ، فإن الأعمى لا يعود بصيرا فالعذر في محل الآلة أتم .

المسألة الرابعة : قدم الأعمى على الأعرج ، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال ، والأعرج إن حضر راكبا أو بطريق آخر يقدر على القتال بالرمي وغيره .

قوله تعالى : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما * لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما } .

اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة الآخر فجمع بينهما بيانا لطاعة الله ، فإن الله تعالى لو قال : ومن يطع الله ، كان لبعض الناس أن يقول : نحن لا نرى الله ولا نسمع كلامه ، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه ؟ فقال طاعته في طاعة رسوله وكلامه يسمع من رسوله .

ثم قال : { ومن يتول } أي بقلبه .