اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ} (77)

قوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .

هذا هو القسم عليه ، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان{[55065]} :

أحدهما : الاعتراض بقوله : «وإنه لقسم » بين القسم والمقسم عليه .

والثاني : الاعتراض بقوله : «لو تعلمون » بين الصفة والموصوف .

ومنع ابن عطية{[55066]} أن يجعل قوله : «وإنه لقسمٌ » اعتراضاً .

فقال : «وإنه لقسم » تأكيد للأمر ، وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهكُّم به ، وإنما الاعتراض قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } .

قال شهاب الدين{[55067]} : «وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض ، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته » .

«والهاء » في «إنه لقرآن » تعود على القرآن ، أي : إن القرآن لقسم عظيم .

قاله ابن عبَّاس وغيره{[55068]} .

وقيل{[55069]} : أي ما أقسم الله به عظيم { إنه لقرآن كريم } ذكر المقسم عليه ، أي : أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى ، بل هو قرآن كريم ، محمود جعله الله معجزة نبيه ، وهو كريم على المؤمنين ؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء والأرض ؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه .

وقيل : «كريم » أي : غير مخلوق .

وقيل : «كريم » لما فيه من كرم الأخلاق ، ومعالي الأمور .

وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قدره .

فصل في تحرير معنى الآية

قال ابن الخطيب{[55070]} : «كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة ؛ لأن الكلام متى أعيد وكرر استهين به ، والقرآن يكون إلى آخر الدهر ، ولا يزداد إلاَّ عزاً . والقرآن إما ك «الغُفْرَان » ، والمراد به المفعول ، وهو المقروء كقوله : [ هَذَا خلقُ اللَّه ]{[55071]} وإما اسم لما يقرأ ك «القُرْبَان » لما يتقرب به ، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن ، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة : يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه ، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى ، فيقال له : هو كالقرآن بمعنى المقرُوء .

فمعنى «كريم » أي : مقروء ، قرئ : ويقرأ بالفتح ، فإن معنى «كريم » أي : لا يهون بكثرة التلاوة ، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ ، والحديث الطَّري .

وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث ، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً ، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [ الساعة ]{[55072]} .

فصل

قوله : { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } . مصون عند الله .

وقيل : «مَكْنُون » محفوظ عن الباطل ، والكتاب هنا : كتاب في السَّماء{[55073]} .

قاله ابن عبَّاس{[55074]} .

وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً : هو اللوح المحفوظ{[55075]} .

وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن{[55076]} .

وقال السدي : الزَّبُور{[55077]} .

وقال قتادة ومجاهد : هو المصحف الذي في أيدينا{[55078]} .

فصل في تفسير معنى الآية

قال ابن الخطيب{[55079]} : قوله تعالى : { فِي كِتَابٍ } يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان :

أحدهما : أنه القرآن ، أي : هو قرآن في كتاب ، كقولك : «فلان رجلٌ كريم في نفسه » لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد ، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً ، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت ، فكذلك هاهنا معناه : أنه كريم في كتاب .

فإذا قيل : «فلان رجل كريم في نفسه » يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً ، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم ، وإنما أراد أن كرمه في نفسه ، وكذا قوله : «قرآن كريم ، في لوح » أي : أنه لم يكن كريماً عند الكُفَّار .

الثاني : أن المظروف هو مجموع قوله تعالى : { لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : هو كذا في كتاب كقوله تعالى { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [ المطففين : 19 ] ، كتاب أي : في كتاب الله تعالى .

والمعنى : أن في اللوح المحفوظ مكتوب : إنه قرآن كريم .

فصل في معنى الكتاب

قال ابن الخطيب{[55080]} : فإن قيل : كيف سمي الكتاب كتاباً ، والكتاب «فِعَال » وهو إما مصدر كالحِساب والقِيام ونحوهما ، أو لما يكتب كاللِّباس ونحوه ، وكيفما كان ، فالقرآن لا يكون في القِرْطَاس ؛ لأنه بمعنى المصدر ، ولا يكون في مكتوب ، وإنما يكون مكتوباً في لوح ، أو ورق ، فالمكتوب لا يكون في الكتاب ، وإنما يكون في القرطاس ؟ .

وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلاَّ لأن يكتب فيه صح تسميته كتاباً .

وقوله : { فِي كِتَابٍ } إما خبر بعد خبر ، وإما صفة ل «كريم » ، وإما معمول ل «كريم » .

والأصح أنَّ الكتاب المكنون هو اللوحُ المحفوظ ، لقوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 ، 22 ] .


[55065]:ينظر: الدر المصون 6/267.
[55066]:المحرر الوجيز 5/251.
[55067]:ينظر: الدر المصون 6/267.
[55068]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/145).
[55069]:ينظر: القرطبي 17/145.
[55070]:ينظر: التفسير الكبير 29/166.
[55071]:سقط من ب.
[55072]:في ب: الجماعة.
[55073]:ينظر: القرطبي 17/146.
[55074]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/659).
[55075]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/146).
[55076]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/659) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/232) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
[55077]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/146).
[55078]:ينظر المصدر السابق.
[55079]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 29/167.
[55080]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 29/167.