مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا فَجَآءَهَا بَأۡسُنَا بَيَٰتًا أَوۡ هُمۡ قَآئِلُونَ} (4)

قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين }

اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ ، وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج : موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها .

قال : وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيدا ضربته ، والنصب جيد عربي أيضا كقوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } .

المسألة الثانية : قيل : في الآية محذوف والتقدير : وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه : أحدها : قوله : { فجاءها بأسنا } والبأس لا يليق إلا بالأهل . وثانيها : قوله : { أو هم قائلون } فعاد الضمير إلى أهل القرية . وثالثها : أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم . ورابعها : أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم .

فإن قيل : فلماذا قال أهلكناها ؟ أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى : { وكأين من قرية عتت } فرده على اللفظ . ثم قال : { أعد الله لهم } فرده على المعنى دون اللفظ ، ولهذا السبب قال الزجاج : ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صوابا ، وقال بعضهم : لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها ، ولأن على هذا التقدير يكون قوله : { فجاءها بأسنا } محمولا على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : قوله : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } يقتضي أن يكون الإهلاك متقدما على مجيء البأس وليس الأمر كذلك ، فإن مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه : الأول : المراد بقوله : { أهلكناها } أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا . وثانيها : كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } وثالثها : أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال واردا فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس . فإن قالوا : السؤال باق ، لأن الفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } فاء التعقيب ، وهو يوجب المغايرة . فنقول : الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ) فالفاء في قوله فيغسل للتفسير ، لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه . فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير ، لذلك الإهلاك ، لأن الإهلاك ، قد يكون بالموت المعتاد ، وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم ، فكان ذكر البأس تفسيرا لذلك الإهلاك . الرابع : قال الفراء : لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال : أعطيتني فأحسنت ، وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله ، وإنما وقعا معا فكذا ههنا ، وقوله : { بياتا } قال الفراء يقال : بات الرجل يبيت بيتا ، وربما قالوا بياتا قالوا : وسمي البيت لأنه يبات فيه . قال صاحب «الكشاف » : قوله : { بياتا } مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله : { أو هم قائلون } فيه بحثان :

البحث الأول : أنه حال معطوفة على قوله : { بياتا } كأنه قيل : فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين . قال الفراء : وفيه واو مضمرة ، والمعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو وهم قائلون ، إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ، ولو قيل : كان صوابا ، وقال الزجاج : أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف ، فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز ، ولو قلت : جاءني زيد راجلا وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف .

البحث الثاني : كلمة «أو » دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا ، وفي القيلولة قولان : قال الليث : القيلولة نومة نصف النهار . وقال الأزهري : القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر ، وإن لم يكن مع ذلك نوم ، والدليل عليه : أن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا } ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له ، إما ليلا وهم نائمون ، أو نهارا وهم قائلون ، والمقصود : أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب ، فكأنه قيل : للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ ، فإن عذاب الله إذا وقع ، وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم .