مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{جَزَآءٗ مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَابٗا} (36)

ثم إنه تعالى لما عدد أقسام نعيم أهل الجنة قال : { جزاء من ربك عطاء حسابا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الزجاج : المعنى جازاهم بذلك جزاء ، وكذلك عطاء لأن معنى جازاهم وأعطاهم واحد .

المسألة الثانية : في الآية سؤال وهو أنه تعالى جعل الشيء الواحد جزاء وعطاء ، وذلك محال لأن كونه جزاء يستدعي ثبوت الاستحقاق ، وكونه عطاء يستدعي عدم الاستحقاق والجمع بينهما متناف ( والجواب عنه ) : لا يصح إلا على قولنا : وهو أن ذلك الاستحقاق إنما ثبت بحكم الوعد ، لا من حيث إن الفعل يوجب الثواب على الله ، فذلك الثواب نظرا إلى الوعد المترتب على ذلك الفعل يكون جزاء ، ونظرا إلى أنه لا يجب على الله لأحد شيء يكون عطاء .

المسألة الثالثة : قوله : { حسابا } فيه وجوه ( الأول ) : أن يكون بمعنى كافيا مأخوذ من قولهم : أعطاني ما أحسبني أي ما كفاني ، ومنه قوله : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، أي كفاني من سؤالي ، ومنه قوله :

فلما حللت به ضمني *** فأولى جميلا وأعطى حسابا

أي أعطى ما كفى ( والوجه الثاني ) : أن قوله : حسابا مأخوذ من حسبت الشيء إذا أعددته وقدرته فقوله : { عطاء حسابا } أي بقدر ما وجب له فيما وعده من الإضعاف ، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه ، وجه منها على عشرة أضعاف ، ووجه على سبعمائة ضعف ، ووجه على ما لا نهاية له ، كما قال : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ( الوجه الثالث ) : وهو قول ابن قتيبة : { عطاء حسابا } أي كثيرا وأحسبت فلانا أي أكثرت له ، قال الشاعر :

ونقفي وليد الحي إن كان جائعا *** ونحسبه إن كان ليس بجائع

الوجه الرابع : أنه سبحانه يوصل الثواب الذي هو الجزاء إليهم ويوصل التفضل الذي يكون زائدا على الجزء إليهم ، ثم قال : { حسابا } ثم يتميز الجزاء عن العطاء حال الحساب ( الوجه الخامس ) : أنه تعالى لما ذكر في وعيد أهل النار : { جزاء وفاقا } ذكر في وعد أهل الجنة جزاء عطاء حسابا أي راعيت في ثواب أعمالكم الحساب ، لئلا يقع في ثواب أعمالكم بخس ونقصان وتقصير ، والله أعلم بمراده .

المسألة الرابعة : قرأ ابن قطيب : { حسابا } بالتشديد على أن الحساب بمعنى المحسب كالدراك بمعنى المدرك ، هكذا ذكره صاحب «الكشاف » .

واعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف وعيد الكفار ووعد المتقين ، ختم الكلام في ذلك بقوله : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا }