مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّآ أَنذَرۡنَٰكُمۡ عَذَابٗا قَرِيبٗا يَوۡمَ يَنظُرُ ٱلۡمَرۡءُ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُ وَيَقُولُ ٱلۡكَافِرُ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ تُرَٰبَۢا} (40)

ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال : { إنا أنذرناكم عذابا قريبا } يعني العذاب في الآخرة ، وكل ما هو آت قريب ، و[ هو ] كقوله تعالى : { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } وإنما سماه إنذارا ، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار .

ثم قال تعالى : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما في قوله : { ما قدمت يداه } فيه وجهان ( الأول ) : أنها استفهامية منصوبة بقدمت ، أي ينظر أي شيء قدمت يداه ( الثاني ) : أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر ، والتقدير : ينظر إلى الذي قدمت يداه ، إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان ( أحدهما ) : أنه لم يقل : قدمته ، بل قال : { قدمت } فحذف الضمير الراجع ( الثاني ) : أنه لم يقل : ينظر إلى ما قدمت ، بل قال : ينظر ما قدمت ، يقام نظرته بمعنى نظرت إليه .

المسألة الثانية : في الآية ثلاثة أقوال : ( الأول ) : وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد ، لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين ، فليس له إلا الثواب العظيم ، وإن كان قدم عمل الكافرين ، فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى ، فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين ، فهذا هو المراد بقوله : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } فطوبى له إن قدم عمل الأبرار ، وويل له إن قدم عمل الفجار ( والقول الثاني ) : وهو قول عطاء أن المرء ههنا هو الكافر ، لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه ، فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته ، وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب ، فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه ، لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته ( والقول الثالث ) : وهو قول الحسن ، وقتادة أن المرء ههنا هو المؤمن ، واحتجوا عليه بوجهين ( الأول ) : أنه تعالى قال بعد هذه الآية ، { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } فلما كان هذا بيانا لحال الكافر ، وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن ( والثاني ) : وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء ، فينتظر كيف يحدث الحال ، أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب ، فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر ، فإن مع القطع لا يحصل الانتظار .

المسألة الثالثة : القائلون : بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : لولا أن الأمر كذلك ، وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر ( والجواب عنه ) : أن العمل يوجب الثواب والعقاب ، لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات .

أما قوله تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } ففيه وجوه : ( أحدها ) : أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه ، أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فعند ذلك يقول الكافر : { يا ليتني كنت ترابا } أي لم يكن حيا مكلفا ( وثانيها ) : أنه كان قبل البعث ترابا ، فالمعنى على هذا . يا ليتني لم أبعث للحساب ، وبقيت كما كنت ترابا ، كقوله تعالى : { يا ليتها كانت القاضية } وقوله : { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } ( وثالثها ) : أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة : ( كوني ترابا ) فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير ترابا ، ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك . وقال : إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع ، لأن ذلك كالإضرار بها ، ولا يجوز ذلك في الآخرة ، ثم إن هؤلاء قالوا : إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثوابا لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار ، قال القاضي : ولا يمتنع أيضا إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضررا ( ورابعها ) : ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله : { يا ليتني كنت ترابا } معناه يا ليتني كنت متواضعا في طاعة الله ولم أكن متكبرا متمردا ( وخامسها ) : الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال : { خلقتني من نار وخلقته من طين } والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .