قوله تعالى : { يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم }
اعلم أنه سبحانه لما أخبر في الآية الأولى عن وقوع الحشر والنشر ذكر في هذه الآية ما يدل عقلا على إمكانه أو على وقوعه ، وذلك من وجهين ( الأول ) : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع موائد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم ؟ ( الثاني ) : أن القادر الذي خلق هذه البنية الإنسانية ثم سواها وعدلها ، إما أن يقال : إنه خلقها لا لحكمة أو لحكمة ، فإن خلقها لا لحكمة كان ذلك عبثا ، وهو غير جائز على الحكيم ، وإن خلقها لحكمة ، فتلك الحكمة ، إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى أو إلى العبد ، والأول باطل لأنه سبحانه متعال عن الاستكمال والانتفاع . فتعين الثاني ، وهو أنه خلق الخلق لحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة إما أن تظهر في الدنيا أو في دار سوى الدنيا . والأول باطل لأن الدنيا دار بلاء وامتحان ، لا دار الانتفاع والجزاء ، ولما بطل كل ذلك ثبت أنه لابد بعد هذه الدار من دار أخرى ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق والتسوية والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه سبحانه يبعث الأموات ويحشرهم ، وذلك يمنعهم من الاعتراف بعدم الحشر والنشر ، وهذا الاستدلال هو الذي ذكر بعينه في سورة التين حيث قال : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } إلى أن قال : { فما يكذبك بعد بالدين } وهذه المحاجة تصلح مع العرب الذين كانوا مقرين بالصانع وينكرون الإعادة ، وتصلح أيضا مع من ينفي الابتداء والإعادة معا ، لأن الخلق المعدل يدل على الصانع وبواسطته يدل على صحة القول بالحشر والنشر ، فإن قيل : بناء هذا الاستدلال على أنه تعالى حكيم ، ولذلك قال في سورة التين بعد هذا الاستدلال : { أليس الله بأحكم الحاكمين } فكان يجب أن يقول في هذه السورة : ما غرك بربك الحكيم ( الجواب ) : أن الكريم يجب أن يكون حكيما ، لأن إيصال النعمة إلى الغير لو لم يكن مبنيا على داعية الحكمة لكان ذلك تبذيرا لا كرما . أما إذا كان مبنيا على داعية الحكمة فحينئذ يسمى كرما ، إذا ثبت هذا فنقول : كونه كريما يدل على وقوع الحشر من وجهين كما قررناه ، أما كونه حكيما فإنه يدل على وقوع الحشر من هذا الوجه الثاني ، فكان ذكر الكريم ههنا أولى من ذكر الحكيم ، هذا هو تمام الكلام في كيفية النظم ، ولنرجع إلى التفسير . أما قوله : { يا أيها الإنسان } ففيه قولان : ( أحدهما ) أنه الكافر ، لقوله من بعد ذلك : { كلا بل تكذبون بالدين } وقال عطاء عن ابن عباس : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في ابن الأسد بن كلدة بن أسيد ، وذلك أنه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى ، وأنزل هذه الآية ( والقول الثاني ) : أنه يتناول جميع العصاة وهو الأقرب ، لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ .
أما قوله : { ما غرك بربك الكريم } فالمراد الذي خدعك وسول لك الباطل حتى تركت الواجبات وأتيت بالمحرمات ، والمعنى ما الذي أمنك من عقابه ، يقال : غره بفلان إذا أمنه المحذور من جهته مع أنه غير مأمون ، وهو كقوله : { لا يغرنكم بالله الغرور } هذا إذا حملنا قوله : { يا أيها الإنسان } على جميع العصاة ، وأما إذا حملناه على الكافر ، فالمعنى ما الذي دعاك إلى الكفر والجحد بالرسل ، وإنكار الحشر والنشر ، وههنا سؤالات :
الأول : أن كونه كريما يقتضي أن يغتر الإنسان بكرمه بدليل المعقول والمنقول ، أما المعقول فهو أن الجود إفادة ما ينبغي لا لعوض ، فلما كان الحق تعالى جوادا مطلقا لم يكن مستعيضا ، ومتى كان كذلك استوى عنده طاعة المطيعين ، وعصيان المذنبين ، وهذا يوجب الاغترار لأنه من البعيد أن يقدم الغني على إيلام الضعيف من غير فائدة أصلا ، وأما المنقول فما روي عن علي عليه السلام ، أنه دعا غلامه مرات فلم يجبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : لم لم تجبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه ، وأعتقه ، وقالوا أيضا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، ولما ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به ، فكيف جعله ههنا مانعا من الاغترار به ؟ ( والجواب ) : من وجوه ( أحدها ) : أن معنى الآية أنك لما كنت ترى حلم الله على خلقه ظننت أن ذلك لأنه لا حساب ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى هذا الاغترار ، وجرأك على إنكار الحشر والنشر ؟ فإن ربك كريم ، فهو لكرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطا في مدة التوبة ، وتأخيرا للجزاء إلى أن يجمع الناس في الدار التي جعلها لهم للجزاء ، فالحاصل أن ترك المعاجلة بالعقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بأنه لا دار بعد هذه الدار ( وثانيها ) : أن كرمه لما بلغ إلى حيث لا يمنع من العاصي موائد لطفه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم ، كان أولى فإذن كونه كريما يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجراءة والاغترار ( وثالثها ) : أن كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة والاستحياء من الاغترار والتواني ( ورابعها ) : قال بعض الناس : إنما قال : { بربك الكريم } ليكون ذلك جوابا عن ذلك السؤال حتى يقول غرني كرمك ، ولولا كرمك لما فعلت لأنك رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت ، وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد من قوله : { يا أيها الإنسان } ليس الكافر .
السؤال الثاني : ما الذي ذكره المفسرون في سبب هذا الاغترار ؟ قلنا وجوه : ( أحدها ) قال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان له ( وثانيها ) : قال الحسن : غره حمقه وجهله ( وثالثها ) : قال مقاتل : غره عفو الله عنه حين لم يعاقبه في أول أمره ، وقيل : للفضيل بن عياض إذا أقامك الله يوم القيامة ، وقال لك : { ما غرك بربك الكريم } ماذا تقول ؟ قال : أقول غرتني ستورك المرخاة .
السؤال الثالث : ما معنى قراءة سعيد بن جبير ما أغرك ؟ ( قلنا ) : هو إما على التعجب وإما على الاستفهام من قولك غر الرجل فهو غار إذا غفل ، ومن قولك بيتهم العدو وهم غارون ، وأغره غيره جعله غارا
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.