مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ} (2)

أما قوله تعالى : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } فاعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالتسبيح ، فكأن سائلا قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة ، فما الدليل على وجود الرب ؟ فقال : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } واعلم أن الاستدلال بالخلق والهداية هي الطريقة المعتمدة عند أكابر الأنبياء عليهم السلام ، والدليل عليه ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ، أنه قال : { الذي خلقني فهو يهدين } وحكي عن فرعون أنه لما قال لموسى وهرون عليهما السلام : { فمن ربكما يا موسى } ؟ قال موسى عليه السلام : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } وأما محمد عليه السلام فإنه تعالى أول ما أنزل عليه هو قوله : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } هذا إشارة إلى الخلق ، ثم قال : { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم } وهذا إشارة إلى الهداية ، ثم إنه تعالى أعاد ذكر تلك الحجة في هذه السورة ، فقال : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } وإنما وقع الاستدلال بهذه الطريقة كثيرا لما ذكرنا أن العجائب والغرائب في هذه الطريقة أكثر ، ومشاهدة الإنسان لها ، واطلاعه عليها أتم ، فلا جرم كانت أقوى في الدلالة ، ثم ههنا مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { خلق فسوى } يحتمل أن يريد به الناس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها ( أحدها ) : أنه جعل قامته مستوية معتدلة وخلقته حسنة ، على ما قال : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه ، فقال : { فتبارك الله أحسن الخالقين } ، ( وثانيها ) : أن كل حيوان فإنه مستعد لنوع واحد من الأعمال فقط ، وغير مستعد لسائر الأعمال ، أما الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع أفعال الحيوانات بواسطة آلات مختلفة فالتسوية إشارة إلى هذا ( وثالثها ) : أنه هيأ للتكليف والقيام بأداء العبادات ، وأما من حمله على جميع الحيوانات . قال : المراد أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من أعضاء وآلات وحواس ، وقد استقصينا القول في هذا الباب في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ، وأما من حمله على جميع المخلوقات ، قال : المراد من التسوية هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات ، خلق ما أراد على وفق ما أراد موصوفا بوصف الأحكام والإتقان ، مبرأ عن الفسخ والاضطراب .