مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأعلى

{ بسم الله الرحمن الرحيم سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى } فيه مسائل :

المسألة الأولى : في قوله : { اسم ربك } قولان : ( أحدهما ) : أن المراد الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه ( والثاني ) : أن الاسم صلة والمراد الأمر بتنزيه الله تعالى . أما على الوجه الأول ففي اللفظ احتمالات ( أحدها ) : أن المراد نزه اسم ربك عن أن تسمي به غيره ، فيكون ذلك نهيا على أن يدعى غيره باسمه ، كما كان المشركون يسمون الصنم باللات ، ومسيلمة برحمان اليمامة ( وثانيها ) : أن لا يفسر أسماءه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتداء والاستواء بالاستيلاء ( وثالثها ) : أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم ، ويدخل فيه أن يذكر تلك الأسماء عند الغفلة وعدم الوقوف على معانيها وحقائقها ( ورابعها ) : أن يكون المراد بسبح باسم ربك ، أي مجده بأسمائه التي أنزلتها عليك وعرفتك أنها أسماؤه كقوله : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } ونظير هذا التأويل قوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } ومقصود الكلام من هذا التأويل أمران : ( أحدهما ) : { سبح اسم ربك الأعلى } ، أي صل باسم ربك ، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية ( والثاني ) : أن لا يذكر العبد ربه إلا بأسماء التي ورد التوقيف بها ، قال الفراء : لا فرق بين { سبح اسم ربك } وبين { فسبح باسم ربك } قال الواحدي : وبينهما فرق لأن معنى { فسبح باسم ربك } نزه الله تعالى بذكر اسمه المنبئ عن تنزيهه وعلوه عما يقول المبطلون ، و{ سبح اسم ربك } أي نزه الاسم من السوء ( وخامسها ) قال أبو مسلم : المراد من الاسم ههنا الصفة ، وكذا في قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } أما على الوجه الثاني وهو أن يكون الاسم صلة ويكون المعنى سبح ربك وهو اختيار جمع من المحققين ، قالوا : لأن الاسم في الحقيقة لفظة مؤلفة من حروف ولا يجب تنزيهها كما يجب في الله تعالى ، ولكن المذكور إذا كان في غاية العظمة لا يذكر هو بل يذكر اسمه فيقال : سبح اسمه ، ومجد ذكره ، كما يقال : سلام على المجلس العالي ، وقال لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** . . .

أي السلام وهذه طريقة مشهورة في اللغة ، ونقول على هذا الوجه : تسبيح الله يحتمل وجهين ( الأول ) : أن لا يعامل الكفار معاملة يقدمون بسببها على ذكر الله بما لا ينبغي على ما قال : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } ( الثاني ) : أنه عبارة عن تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به ، في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، وفي أسمائه وفي أحكامه ، أما في ذاته فأن يعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض ، وأما في صفاته ، فأن يعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة ، وأما في أفعاله فأن يعتقد أنه مالك مطلق ، فلا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور ، وقالت المعتزلة هو أن يعتقد أن كل ما فعله فهو صواب حسن ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يرضى به ، وأما في أسمائه فأن لا يذكر سبحانه إلا بالأسماء التي ورد التوقيف بها ، هذا عندنا وأما عند المعتزلة فهو أن لا يذكر إلا بالأسماء التي لا توهم نقصا بوجه من الوجوه سواء ورد الإذن بها أو لم يرد ، وأما في أحكامه فهو أن يعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه .

بل إما لمحض المالكية على ما هو قولنا ، أو لرعاية مصالح العباد على ما [ هو ] قول المعتزلة .

المسألة الثانية : من الناس من تمسك بهذه الآية في أن الاسم نفس المسمى ، فأقول : إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع ، فلا بد ههنا من بيان أن الاسم ما هو والمسمى ما هو حتى يمكننا أن نخوض في الاسم هل هو نفس المسمى أم لا ، فنقول : وإن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ ، وبالمسمى تلك الذات ، فالعاقل لا يمكنه أن يقول : الاسم هو المسمى ، وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات ، وبالمسمى أيضا تلك الذات كان قولنا الاسم نفس المسمى ، هو أن تلك الذات نفس تلك الذات ، وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل ، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة . وإن كان كذلك كان الخوض في ذكر الاستدلال عليه أرك وأبعد بل ههنا دقيقة ، وهي أن قولنا : اسم لفظة جعلناها اسما لكل ما دل على معنى غير مقترن بزمان ، والاسم كذلك فيلزم أن يكون الاسم اسما لنفسه فههنا الاسم نفس المسمى فلعل العلماء الأولين ذكروا ذلك فاشتبه الأمر على المتأخرين ، وظنوا أن الاسم في جميع المواضع نفس المسمى ، هذا حاصل التحقيق في هذه المسألة ، ولنرجع إلى الكلام المألوف ، قالوا : الذي يدل على أن الاسم نفس المسمى أن أحدا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا فمعنى { سبح اسم ربك } سبح ربك ، والرب أيضا اسم فلو كان غير المسمى لم يجز أن يقع التسبيح عليه ، واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لما بينا في المسألة الأولى أنه يمكن أن يكون الأمر واردا بتسبيح الاسم ، ويمكن أن يكون المراد تسبيح المسمى وذكر الاسم صلة فيه . ويمكن أن يكون المراد سبح باسم ربك كما يقال : { فسبح باسم ربك العظيم } ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه .

المسألة الثالثة : روى عن عقبة بن عامر أنه لما نزل قوله تعالى : { فسبح اسم ربك العظيم } قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اجعلوها في ركوعكم » ولما نزل قوله : { سبح اسم ربك الأعلى } قال : «اجعلوها في سجودكم » ثم روي في الأخبار أنه عليه السلام كان يقول : في ركوعه : «سبحان ربي العظيم » وفي سجوده : «سبحان ربي الأعلى » ثم من العلماء من قال : إن هذه الأحاديث تدل على أن المراد من قوله : { سبح اسم ربك } أي صل باسم ربك ، ويتأكد هذا الاحتمال بإطباق المفسرين على أن قوله تعالى : { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } ورد في بيان أوقات الصلاة .

المسألة الرابعة : قرأ علي عليه السلام وابن عمر : ( سبحان ربي الأعلى الذي خلق فسوى ) ولعل الوجه فيه أن قوله : { سبح } أمر بالتسبيح فلابد وأن يذكر ذلك التسبيح وما هو إلا قوله : سبحان ربي الأعلى .

المسألة الخامسة : تمسكت المجسمة في إثبات العلو بالمكان بقوله : { ربك الأعلى } والحق أن العلو بالجهة على الله تعالى محال ، لأنه تعالى إما أن يكون متناهيا أو غير متناه ، فإن كان متناهيا كان طرفه الفوقاني متناهيا ، فكان فوقه جهة فلا يكون هو سبحانه أعلى من جميع الأشياء وأما إن كان غير متناه فالقول بوجود أبعاد غير متناهية محال وأيضا فلأنه إن كان غير متناه من جميع الجهات يلزم أن تكون ذاته تعالى مختلطة بالقاذورات تعالى الله عنه ، وإن كان غير متناه من بعض الجهات ومتناهيا من بعض الجهات كان الجانب المتناهي مغايرا للجانب غير المتناهي فيكون مركبا من جزأين ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود ، هذا محال . فثبت أن العلو ههنا ليس بمعنى العلو في الجهة ، مما يؤكد ذلك أن ما قبل هذه الآية وما بعدها ينافي أن يكون المراد هو العلو بالجهة ، أما قبل الآية فلأن العلو عبارة عن كونه في غاية البعد عن العالم ، وهذا لا يناسب استحقاق التسبيح والثناء والتعظيم ، أما العلو بمعنى كمال القدرة والتفرد بالتخليق والإبداع فيناسب ذلك ، والسورة ههنا مذكورة لبيان وصفه تعالى بما لأجله يستحق الحمد والثناء والتعظيم ، وأما ما بعد هذه الآية فلأنه أردف قوله : { الأعلى } بقوله : { الذي خلق فسوى } والخالقية تناسب العلو بحسب القدرة لا العلو بحسب الجهة .

المسألة السادسة : من الملحدين من قال : بأن القرآن مشعر بأن للعالم ربين أحدهما عظيم والآخر أعلى منه ، أما العظيم فقوله : { فسبح باسم ربك العظيم } وأما الأعلى منه فقوله : { سبح اسم ربك الأعلى } فهذا يقتضي وجود رب آخر يكون هذا أعلى بالنسبة إليه .

واعلم أنه لما دلت الدلائل على أن الصانع تعالى واحد سقط هذا السؤال ، ثم نقول ليس في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى أعلى من رب آخر ، بل ليس فيه إلا أنه أعلى ، ثم لنا فيه تأويلات .

الأول : أنه تعالى أعلى وأجل وأعظم من كل ما يصفه به الواصفون ، ومن كل ذكر يذكره به الذاكرون ، فجلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا ، وأصناف آلائه ونعمائه أعلى من حمدنا وشكرنا ، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا .

الثاني : أن قوله { الأعلى } تنبيه على استحقاق الله التنزيه من كل نقص فكأنه قال سبحانه فإنه : { الأعلى } أي فإنه العالي على كل شيء بملكه وسلطانه وقدرته ، وهو كما تقول : اجتنبت الخمر المزيلة للعقل أي اجتنبتها بسبب كونها مزيلة للعقل .

والثالث : أن يكون المراد بالأعلى العالي كما أن المراد بالأكبر الكبير .

المسألة السابعة : روي أنه عليه السلام كان يحب هذه السورة ويقول : " لو علم الناس علم سبح اسم ربك الأعلى لرددها أحدهم ست عشرة مرة " وروي : «أن عائشة مرت بأعرابي يصلي بأصحابه فقرأ : ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي يسر على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشا ، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، ألا بلى ألا بلى ) فقالت عائشة : لا آب غائبكم ، ولا زالت نساؤكم في لزبة » والله أعلم .