مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَوۡ كَانَ عَرَضٗا قَرِيبٗا وَسَفَرٗا قَاصِدٗا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ يُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (42)

قوله تعالى : { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون }

اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله ، وكان قد ذكر قوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، وبين أن أقواما ، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد ، تخلفوا في غزوة تبوك ، وبين أنه { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر . قال الزجاج : فيه محذوف والتقدير : لو كان المدعو إليه سفرا قاصدا ، فحذف اسم ( كان ) لدلالة ما تقدم عليه . وقوله : { وسفرا قاصدا } قال الزجاج : أي سهلا قريبا . وإنما قيل لمثل هذا قاصدا ، لأن المتوسط ، بين الإفراط ، والتفريط ، يقال له : مقتصد . قال تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد } وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد ، فسمي قاصدا ، وتفسير القاصد : ذو قصد ، كقولهم لابن وتامر ورابح . قوله : { ولكن بعدت عليهم الشقة } قال الليث : الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال : شقة شاقة ، والمعنى : بعدت عليهم الشاقة البعيدة ، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها . ونقل صاحب «الكشاف » عن عيسى بن عمر : أنه قرأ { بعدت عليهم الشقة } بكسر العين والشين .

المسألة الثانية : هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريبا لاتبعوك طمعا منهم في الفوز بتلك المنافع ، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم ، فلهذا السبب تخلفوا . ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم { يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } إما عندما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق . وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " اليمين الغموس تدع الديار بلاقع "

ثم قال : { والله يعلم إنهم لكاذبون } في قولهم ما كنا نستطيع الخروج ، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج .

المسألة الثالثة : دلت الآية على أن قوله : { انفروا خفافا وثقالا } إنما يتناول من كان قادرا متمكنا ، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف .

المسألة الرابعة : استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل ، فقال : لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا إلى القتال ، ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم : ما كنا نستطيع ذلك ، ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول ، علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل . واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضا له ، وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به : ما كان لهم زاد ولا راحلة ، وما أرادوا به نفس القدرة .

وأجاب : إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج ، فمن لا استطاعة له أولى بالعذر . وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال ، وإذا أريد به المال ، فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن ، فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة .

وأجاب أصحابنا : بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل ، إلا بوقت واحد ، فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع ، فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادرا في هذا الزمان أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه ، بل إنما يقدر على أن يفعل فعلا في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد ، فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة ، فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا ، وعند هذا يجب علينا وعليهم ، أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال .

المسألة الخامسة : قالوا بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لما وقع كما أخبر ، كان هذا إخبارا عن الغيب ، فكان معجزا ، والله أعلم .