مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَلَوۡ أَرَادُواْ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةٗ وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ} (46)

ثم قال تعالى : { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } قرئ { عدته } وقرئ أيضا { عدة } بكسر العين بغير إضافة وبإضافة ، قال ابن عباس : يريد من الزاد والماء والراحلة ، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد ، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف . وقال آخرون : هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة .

ثم قال تعالى : { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الانبعاث : الانطلاق في الأمر ، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث ، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه ، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به ، والمعنى : أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فصرفهم عنه .

فإن قيل : إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة .

فإن قلنا : إنه كان مفسدة ، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود ؟ وإن قلنا : إنه كان مصلحة ، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم ؟

والجواب الصحيح : أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة ، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا ، فلم عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله { لم أذنت لهم } أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود ، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال ، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة ، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه ، وتأكد ذلك بسائر الآيات ، منها قوله تعالى : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا } ومنها قوله تعالى : { سيقول المخلفون إذا انطلقتم } إلى قوله : { قل لن تتبعونا } فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم .

والوجه الثاني : من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله : { لم أذنت لهم } إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ، ولهذا السبب قال تعالى : { لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } والثاني : أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ؛ فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم ، وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم ، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفيا وفاتت تلك المصالح . والثالث : أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { اقعدوا مع القاعدين } على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله : { وقيل اقعدوا مع القاعدين } ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا فقال تعالى : { لم أذنت لهم } أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم ؟ الرابع : أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا : إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد ، وذلك غير جائز ، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جاريا مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص ، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة البصرية : الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية ، بدليل قوله تعالى : { ولكن كره الله انبعاثهم } قال أصحابنا : معنى { كره الله } أراد عدم ذلك الشيء . قال البصرية : العدم لا يصلح أن يكون متعلقا ، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، والعدم نفي محض ، وأيضا فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به ، لأن تحصيل الحاصل محال ، وجعل العدم عدما محال ، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال ، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم .

أجاب أصحابنا : بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء ، فهو تعالى أراد منهم السكون ، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارها لخروجهم مع الرسول .

المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى : { فثبطهم } أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث ، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق ، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه ، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة ، إن كانت من العبد لزم التسلسل ، وإن كانت من الله ؛ فحينئذ لزم المقصود . لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل ، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : { وقيل اقعدوا مع القاعدين } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله : { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا القول ممن كان ؟ فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد ، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص .