مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ} (2)

وأما قوله : { والليل إذا سجى } فذكر أهل اللغة في { سجى } ثلاثة أوجه متقاربة : سكن وأظلم وغطى ( أما الأول ) : فقال أبو عبيد والمبرد والزجاج : سجى أي سكن يقال : ليلة ساجية أي ساكنة الريح ، وعين ساجية أي فائزة الطرف . وسجى البحر إذا سكنت أمواجه ، وقال في الدعاء :

يا مالك البحر إذا البحر سجى

وأما الثاني : وهو تفسير سجى بأظلم . فقال الفراء : سجى أي أظلم وركد في طوله .

وأما الثالث : وهو تفسير سجى بغطى ، فقال الأصمعي وابن الأعرابي سجى الليل تغطيته النهار ، مثل ما يسجى الرجل بالثوب ، واعلم أن أقوال المفسرين غير خارجة عن هذه الوجوه الثلاثة فقال ابن عباس : غطى الدنيا بالظلمة ، وقال الحسن : ألبس الناس ظلامه ، وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : إذا أقبل الليل غطى كل شيء ، وقال مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد : سكن بالناس ولسكونه معنيان ( أحدهما ) : سكون الناس فنسب إليه كما يقال ليل نائم ونهار صائم ( والثاني ) : هو أن سكونه عبارة عن استقرار ظلامه واستوائه فلا يزداد بعد ذلك ، وههنا سؤالات :

السؤال الأول : ما الحكمة في أنه تعالى في السورة الماضية قدم ذكر الليل ، وفي هذه السورة أخره ؟ قلنا : فيه وجوه ( أحدها ) : أن بالليل والنهار ينتظم مصالح المكلفين ، والليل له فضيلة السبق لقوله : { وجعل الظلمات والنور } وللنهار فضيلة النور ، بل الليل كالدنيا والنهار كالآخرة ، فلما كان لكل واحد فضيلة ليست للآخر ، لا جرم قدم هذا على ذاك تارة وذاك ، على هذا أخرى ، ونظيره أنه تعالى قدم السجود على الركوع في قوله : { واسجدي واركعي } ثم قدم الركوع على السجود في قوله : { اركعوا واسجدوا } ( وثانيها ) : أنه تعالى قدم الليل على النهار في سورة أبي بكر لأن أبا بكر سبقه كفر ، وههنا قدم الضحى لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سبقه ذنب ( وثالثها ) : سورة والليل سورة أبي بكر ، وسورة الضحى سورة محمد عليه الصلاة والسلام ثم ما جعل بينهما واسطة ليعلم أنه لا واسطة بين محمد وأبي بكر ، فإذا ذكرت الليل أولا وهو أبو بكر ، ثم صعدت وجدت بعده النهار وهو محمد ، وإن ذكرت والضحى أولا وهو محمد ، ثم نزلت وجدت بعده ، والليل وهو أبو بكر ، ليعلم أنه لا واسطة بينهما .

السؤال الثاني : ما الحكمة ههنا في الحلف بالضحى والليل فقط ؟ ( والجواب ) لوجوه ( أحدها ) : كأنه تعالى يقول الزمان ساعة ، فساعة ساعة ليل ، وساعة نهار ، ثم يزداد فمرة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار ، ومرة بالعكس فلا تكون الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى .

بل للحكمة ، كذا الرسالة وإنزال الوحي بحسب المصالح فمرة إنزال ومرة حبس ، فلا كان الإنزال عن هوى ، ولا كان الحبس عن قلى ( وثانيها ) : أن العالم لا يؤثر كلامه حتى يعمل به ، فلما أمر الله تعالى بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، لم يكن بد من أن يعمل به ، فالكفار لما ادعوا أن ربه ودعه وقلاه ، قال : هاتوا الحجة فعجزوا فلزمه اليمين بأنه ما ودعه ربه وما قلاه ( وثانيها ) : كأنه تعالى يقول : انظروا إلى جوار الليل مع النهار لا يسلم أحدهما عن الآخر بل الليل تارة يغلب وتارة يغلب فكيف تطمع أن تسلم على الخلق .

السؤال الثالث : لم خص وقت الضحى بالذكر ؟ ( الجواب ) : فيه وجوه ( أحدها ) : أنه وقت اجتماع الناس وكمال الأنس بعد الاستيحاش في زمان الليل ، فبشروه أن بعد استيحاشك بسبب احتباس الوحي يظهر ضحى نزول الوحي ( وثانيها ) : أنها الساعة التي كلم فيها موسى ربه ، وألقى فيها السحرة سجدا ، فاكتسى الزمان صفة الفضيلة لكونه ظرفا ، فكيف فاعل الطاعة ! وأفاد أيضا أن الذي أكرم موسى لا يدع إكرامك ، والذي قلب قلوب السحرة حتى سجدوا يقلب قلوب أعدائك .

السؤال الرابع : ما السبب في أنه ذكر الضحى وهو ساعة من النهار ، وذكر الليل بكليته ؟ ( الجواب ) : فيه وجوه ( أحدها ) : أنه إشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن محمدا إذا وزن يوازي جميع الأنبياء ( والثاني ) : أن النهار وقت السرور والراحة ، والليل وقت الوحشة والغم فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها ، فإن الضحى ساعة والليل كذا ساعات ، يروى أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت غمامة سوداء عن يسارة ، ونادت ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري الهموم والأحزان مائة سنة ، ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك وهكذا إلى تمام ثلاثمائة سنة ، ثم بعد ذلك أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء ونادت : ماذا أمطر ؟ فأجيبت أن أمطري السرور ساعة ، فلهذا السبب ترى الغموم والأحزان دائمة ، والسرور قليلا ونادرا ( وثالثها ) : أن وقت الضحى وقت حركة الناس وتعارفهم فصارت نظير وقت الحشر ، والليل إذا سكن نظير سكون الناس في ظلمة القبور ، فكلاهما حكمة ونعمة لكن الفضيلة للحياة على الموت ، ولما بعد الموت على ما قبله ، فلهذا السبب قدم ذكر الضحى على ذكر الليل ( ورابعها ) : ذكروا الضحى حتى لا يحصل اليأس من روحه ، ثم عقبه بالليل حتى لا يحصل الأمن من مكره .

السؤال الخامس : هل أحد من المذكرين فسر الضحى بوجه محمد والليل بشعره ؟ ( والجواب ) : نعم ولا استبعاد فيه ومنهم من زاد عليه فقال : والضحى ذكور أهل بيته ، والليل إناثهم ، ويحتمل الضحى رسالته والليل زمان احتباس الوحي ، لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمن الاحتباس حصل الاستيحاش ، ويحتمل والضحى نور علمه الذي به يعرف المستور من الغيوب : والليل عفوه الذي به يستر جميع الغيوب . ويحتمل أن الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا ، ويحتمل والضحى كمال العقل ، والليل حال الموت ، ويحتمل أقسم بعلانيتك التي لا يرى عليها الخلق عيبا ، وبسرك الذي لا يعلم عليه عالم الغيب عيبا .