مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ} (4)

قوله تعالى : { وللآخرة خير لك من الأولى }

واعلم أن في اتصاله بما تقدم وجوها ( أحدها ) : أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لأنه عزل عن النبوة ، بل أقصى ما في الباب ، أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة ، وذلك أمارة الموت فكأنه يقال : انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت ، لكن الموت خير لك . فإن مالك عند الله في الآخرة خير وأفضل مما لك في الدنيا ( وثانيها ) : لما نزل { ما ودعك ربك } حصل له بهذا تشريف عظيم ، فكأنه استعظم هذا التشريف فقيل له : { وللآخرة خير لك من الأولى } أي هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم ( وثالثها ) : ما يخطر ببالي ، وهو أن يكون المعنى وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزا إلى عز ، ومنصبا إلى منصب ، فيقول : لا تظن أني قليتك بل تكون كل يوم يأتي فإني أزيدك منصبا وجلالا ، وههنا سؤالان :

السؤال الأول : بأي طريق يعرف أن الآخرة كانت له خيرا من الأولى ؟ ( الجواب ) : لوجوه ( أحدها ) كأنه تعالى يقول له إنك في الدنيا على خير لأنك تفعل فيها ما تريد ، ولكن الآخرة خير لك لأنا نفعل فيها ما نريد ( وثانيها ) : الآخرة خير لك يجتمع عندك أمتك إذ الأمة له كالأولاد قال تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } وهو أب لهم ، وأمته في الجنة فيكون كأن أولاده في الجنة ، ثم سمى الولد قرة أعين ، حيث حكى عنهم : { هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين } ( وثالثها ) : الآخرة خير لك لأنك اشتريتها ، أما هذه ليست لك ، فعلى تقدير أن لو كانت الآخرة أقل من الدنيا لكانت الآخرة خيرا لك ، لأن مملوكك خير لك مما لا يكون مملوكا لك ، فكيف ولا نسبة للآخرة إلى الدنيا في الفضل ( ورابعها ) : الآخرة خير لك من الأولى لأن في الدنيا الكفار يطعنون فيك أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم ، وأجعلك شهيدا على الأنبياء ، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال : { وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله } ( وخامسها ) : أن خيرات الدنيا قليلة مشوبة منقطعة ، ولذات الآخرة كثيرة خالصة دائمة .

السؤال الثاني : لم قال : { وللآخرة خير لك } ولم يقل خير لكم ؟ ( الجواب ) : لأنه كان في جماعته من كانت الآخرة شرا له ، فلو أنه سبحانه عمم لكان كذبا ، ولو خصص المطيعين بالذكر لافتضح المذنبون والمنافقون . ولهذا السبب قال موسى عليه السلام : { كلا إن معي ربي سيهدين } وأما محمد صلى الله عليه وسلم فالذي كان معه لما كان من أهل السعادة قطعا ، لا جرم قال : { إن الله معنا } إذ لم يكن ثم إلا نبي وصديق ، وروي أن موسى عليه السلام خرج للاستسقاء ، ومعه الألوف ثلاثة أيام فلم يجدوا الإجابة ، فسأل موسى عليه السلام عن السبب الموجب لعدم الإجابة . فقال : لا أجيبكم ما دام معكم ساع بالنميمة ، فسأل موسى من هو ؟ فقال : [ إني ] أبغضه فكيف أعمل عمله ، فما مضت مدة قليلة حتى نزل الوحي بأن ذلك النمام قد مات ، وهذه جنازته في مصلى ، كذا فذهب موسى عليه السلام إلى تلك المصلى ، فإذا فيها سبعون من الجنائز ، فهذا ستره على أعدائه فكيف على أوليائه . ثم تأمل فإن فيه دقيقة لطيفة ، وهي أنه عليه السلام قال : «لولا شيوخ ركع » وفيه إشارة إلى زيادة فضيلة هذه الأمة ، فإنه تعالى كان يرد الألوف لمذنب واحد ، وههنا يرحم المذنبين لمطيع واحد .