مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} (3)

قوله تعالى : { ما ودعك ربك وما قلى } فيه مسائل :

( المسألة الأولى ) : قال أبو عبيدة والمبرد : ودعك من التوديع كما يودع المفارق ، وقرئ بالتخفيف أي ما تركك ، والتوديع مبالغة في الوداع ، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك والقلى البغض . يقال : قلاه يقليه قلى ومقلية إذا أبغضه ، قال الفراء : يريد وما قلاك ، وفي حذف الكاف وجوه ( أحدها ) : حذفت الكاف اكتفاء بالكاف الأولى في ودعك ، ولأن رؤس الآيات بالياء ، فأوجب اتفاق الفواصل حذف الكاف ( وثانيها ) : فائدة الإطلاق أنه ما قلاك ولا [ قلا ] أحد من أصحابك . ولا أحدا ممن أحبك إلى قيام القيامة ، تقريرا لقوله : «المرء مع من أحب » .

المسألة الثانية : قال المفسرون : أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال المشركون : قد قلاه الله وودعه ، فأنزل الله تعالى عليه هذه الآية ، وقال السدي : أبطأ عليه أربعين ليلة فشكا ذلك إلى خديجة ، فقالت : لعل ربك نسيك أو قلاك ، وقيل : إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، وروي عن الحسن أنه قال : أبطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم الوحي ، فقال لخديجة : «إن ربي ودعني وقلاني ، يشكو إليها ، فقالت : كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله بهذه الكرامة إلا وهو يريد أن يتمها لك » فنزل : { ما ودعك ربك وما قلى } وطعن الأصوليون في هذه الرواية ، وقالوا : إنه لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى ودعه وقلاه ، بل يعلم أن عزل النبي عن النبوة غير جائز في حكمة الله تعالى ، ويعلم أن نزول الوحي يكون بحسب المصلحة ، وربما كان الصلاح تأخيره ، وربما كان خلاف ذلك ، فثبت أن هذا الكلام غير لائق بالرسول عليه الصلاة والسلام ، ثم إن صح ذلك يحمل على أنه كان مقصوده عليه الصلاة والسلام أن يجربها ليعرف قدر علمها ، أو ليعرف الناس قدر علمها ، واختلفوا في قدر مدة انقطاع الوحي ، فقال ابن جريج : اثنا عشر يوما ، وقال الكلبي : خمسة عشر يوما ، وقال ابن عباس : خمسة وعشرون يوما ، وقال السدي ومقاتل : أربعون يوما ، واختلفوا في سبب احتباس جبريل عليه السلام ، فذكر أكثر المفسرين أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف ، فقال : " سأخبركم غدا ولم يقل إن شاء الله " فاحتبس عنه الوحي ، وقال ابن زيد : السبب فيه كون جرو في بيته للحسن والحسين ، فلما نزل جبريل عليه السلام ، عاتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال : «أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة » وقال جندب بن سفيان : رمى النبي عليه الصلاة بحجر في إصبعه ، فقال :

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

فأبطأ عنه الوحي ، وروي أنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وههنا سؤالان .

السؤال الأول : الروايات التي ذكرتم تدل على أن احتباس الوحي كان عن قلى : ( قلنا ) أقصى ما في الباب أن ذلك كان تركا للأفضل والأولى ، وصاحبه لا يكون ممقوتا ولا مبغضا ، وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل : «ما جئتني حتى اشتقت إليك ، فقال جبريل : كنت إليك أشوق ولكني عبدا مأمورا » وتلا : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .

السؤال الثاني : كيف يحسن من السلطان أن يقول لأعظم الخلق قربة عنده : إني لا أبغضك تشريفا له ؟ ( الجواب ) : أن ذلك لا يحسن ابتداء ، لكن الأعداء إذا ألقوا في الألسنة أن السلطان يبغضه ، ثم تأسف ذلك المقرب فلا لفظ أقرب إلى تشريفه من أن يقول له : إني لا أبغضك ولا أدعك ، وسوف ترى منزلتك عندي .

المسألة الثالثة : هذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند الله ، إذ لو كان من عنده لما امتنع .