روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

والفاء في قوله تعالى : { فارتقب } لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما يوجب ذلك حتماً أي فانتظر لهم { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جداً يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخاناً ، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به ، وقال القتيبي : يسمى دخاناً ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان ، وقال بعض العرب : نسمي الشر الغالب دخاناً ، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف ، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان ، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا : دواخن كأنه جمع داخنة تقديراً ، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر ، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو ، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 7 ] وتفسير الدخان بما فسرناه به مروى عن قتادة . وأبي العالية . والنخعي . والضحاك . ومجاهد . ومقاتل وهو اختيار الفراء . والزجاج .

وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أخرج أحمد . والبخاري . وجماعة عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني تركت رجلاً في المسجد يقول في هذه الآية { يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ } الخ : يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئاً فجلس ثم قال : من علم منكم علماً فليقل به ، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم . فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم ، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشاً لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبطؤا عن الإسلام قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله تعالى : { فارتقب } إِلَى { أَلِيمٌ } [ الدخان : 11 ] فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام ، فسقوا فأنزل الله تعالى :

{ إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } [ الدخان : 15 ] الخبر . وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدباراً قال : اللهم سبعاً كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعاً فشكا الناس كثرة المطر فقال : اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم قال : فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث ، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مكية .

وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين .

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان : كان في يوم فتح مكة وفي «البحر » عنه أنهق ال : { يَوْمَ تَأْتِى السماء } وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة ، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال : كان يوم فتح مكة دخان ، وهو قول الله تعالى : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما ، وقال علي كرم الله تعالى وجهه . وابن عمر . وابن عباس . وأبو سعيد الخدري . وزيد بن علي . والحسن : إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص .

وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان ، قال حذيفة : يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } وقال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره ، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان .

وحكى السفاريني في «البحور الزاخرة » عن ابن مسعود أنه كان يقول : هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس ، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه .

وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله ، وقيل : المراد بيوم تأتي السماء الخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازاً وأن يراد به حقيقته .

وقال الخفاجي : الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى : { تَأْتِي السماء } إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها ، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولاً بمعنى جهة العلو سلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلاً بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولاً كما قال سبحانه : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخاناً .

هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولاً لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به ، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه : { فارتقب يَوْمَ } الخ ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{فَٱرۡتَقِبۡ يَوۡمَ تَأۡتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٖ مُّبِينٖ} (10)

قوله : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } ارتقب معناه انتظر . ويقال ذلك في المكروه . والمعنى : انتظر يا محمد بهؤلاء المشركين يوم تغشاهم السماء بدخان ظاهر يراه كل أحد . وفي حقيقة الدخان قولان :

القول الأول : إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قومه المشركين بمكة لما كذبوه فقال : " اللهم اجعل سنيهم كسنيّ يوسف " فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف . فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان . وهذا قول ابن عباس في رواية عنه وقال به ابن مسعود . وجملة ذلك أن هذا الدخان إنما يراد به الظلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع . وذكر في تفسير الدخان بهذه الحالة أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال سنة المجاعة الغبراء .

القول الثاني : إن هذا الدخان من أشراط الساعة وهو لم يجئ بعد ، وإنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض ، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام . وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم ويضيق أنفاسهم وهو من آثار جهنم يوم القيامة . وهو قول كثيرين من السلف فيهم ابن عمر وأبو هريرة والحسن وابن عباس في رواية عنه . وهذا القول أولى بالصواب . وفي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : " ما تذكرون ؟ " قالوا : نذكر الساعة . قال : " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات " فذكر : " الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " وفي رواية عن حذيفة قال : قلت : يا نبي الله ، وما الدخان ؟ قال : " هذه الآية { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } " .