{ وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } جواب لقولهم : هلا أنزل القرآن بلغة العجم ، والضمير للذكر { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه ، وقوله تعالى : { ءاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } بهمزتين الأولى للاستفهام والثانية همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي ، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضاً وقالوا مالك وللعجمة أو مالنا وللعجمة ، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازاً لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة ، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم ، وقيل : { عَرَبِىٌّ } على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال : عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحداً أو جمعاً ، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباساً طويلاً على امرأة قصيرة قال : اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلاً فيما سيق له الكلام ، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر ، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ . وقرأ عمرو بن ميمون { أَعْجَمِىٌّ } بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضاً فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه ، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى .
وقرأ الحسن . وأبو الأسود . والجحدري . وسلام . والضحاك . وابن عباس . وابن عامر بخلاف عنهما { أَعْجَمِىٌّ } بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام إخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي .
وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي ، والمقصود به من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجمياً على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمراً آخر وهكذا .
{ قُلْ } رداً عليهم { هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى } يهدي إلى الحق { وَشِفَاء } لما في الصدور من شك وشبهة { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ خبره { فِى ءاذَانِهِمْ } على أن { يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ } و { وَقْرٌ } فاعل الظرف ، أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه ، وقيل : خبر الموصول { فِى ءاذَانِهِمْ } و { وَقْرٌ } فاعل الظرف ، وقيل : { وَقْرٌ } خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن و { أَوْ كَصَيّبٍ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من { وَقْرٌ } .
ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول و { وَقْرٌ } على { هُدًى } على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر ، وقوله تعالى : { فِى ءاذَانِهِمْ } ذكر بياناً لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى { وَقْرٌ } والأول أبلغ ؛ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافراً بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله ، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل ، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضاً ، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } مرتبطاً بقوله سبحانه : { هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى ، وقوله تعالى : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ } جملة معترضة على الدعاء ، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم ، وزعم بعضهم أن ضمير { هُوَ } عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى .
وأولى الأوجه ما تقدم وجيء بعلى في { عَلَيْهِمْ عَمًى } للدلالة على استيلاء العمى عليهم ، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } بأنه لغيرهم مرض فظيع { أولئك } إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها { يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادي من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم ، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم : أنت تنادي من بعيد ، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه . ومجاهد ، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم ، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزاً بيناً في نفسه مبيناً لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم ، وقرأ ابن عمر . وابن عباس . وابن الزبير . ومعاوية . وعمرو بن العاص . وابن هرمز { عَمَّ } بكسر الميم وتنوينه ، وقال يعقوب القاري . وأبو حاتم : لا ندري نونوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض ، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار . وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
{ قُلْ هُوَ } أي القرآن { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } [ فصلت : 44 ] على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون
قوله تعالى : { ولو جعلناه } أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس ، { قرآناً أعجميا } بغير لغة العرب ، { لقالوا لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ، { أأعجمي وعربي } يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار ، أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي . قال مقاتل : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار ، غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، يعني أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمداً ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل } يا محمد ، { هو } يعني القرآن ، { للذين آمنوا هدىً وشفاء } لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع . { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به ، { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
قوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ( 44 ) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } .
أنزل الله القرآن بلغة العرب وجعله في غاية الفصاحة والبلاغة ، وفي الذروة السَّامِقة من روعة النظْم وعجيب الأسلوب ، فما سمعت به العرب حتى شُدِهُوا شَدْها ، وغشيهم من البُهْر والذهول ما غشيهم .
على أن القرآن تتجلى فيه ظواهر الإعجاز المذهل ؛ لكونه عربيّا أنزله الله بلسان العرب فصيح جَليّا ليفهموه ويتدبروه ويعوا ما فيه من الحقائق والأحكام والمعاني . ولو جعله الله أعجميا ، أي بلغة غير العرب { لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ } أي هلا بُيِّنَتْ آياته فجاء واضحا مستبينا بلغتنا ؛ لأننا عرب لا نفقه الأعجمية .
قوله : { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } الأعجمي الذي لا يُفصح ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من غير العرب ، نقول استعجم عليه الكلام أي استبهم{[4068]} والاستفهام للإنكار ، والمعنى : أقرآن أعجمي غير فصيح ولا مفهوم ، والذي أنزل إليه عربي ؟
قوله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس أن القرآن هداية لهم ليرشدهم إلى الحق ويقودهم على سواء السبيل فينجون به من الشقاء والتعثر والباطل ، ويسعدون بالنجاة يوم القيامة .
وكذلك فإن القرآن شفاء للناس ، إنه شفاء لهم من كل الأمراض ، وهو شفاء للقلوب من الرِّيب والوساوس والظنون والشبهات استبراء لها من الأدران والأمراض والمفاسد على اختلاف أنواعها وظواهرها .
إن القرآن نور إلهي مشعشع يقذفه الله في قلوب عباده المؤمنين ، ليستنقذهم به من سائر الأمراض والعقابيل الأليمة والممضَّة . لا جرم أن المؤمنين الذين أخلصوا لله دينهم وأذعنوا له بكل الطاعة والخضوع ، يتلذذون بسعادة الأمن والراحة في نفوسهم ، وينعمون ببرد السكينة والرضى وهو على الدوام مبرئون من مختلف الأمراض النفسية التي تفتك بالمجتمعات الضالة السادرة في تيهِ الكفر وفي ظلام المادية الجاحدة ، المجتمعات التي ما فتئت تتجرع كؤوس المرارة والشقاء والظلم والقلق .
قوله : { وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ } الذين ، اسم موصول في محل رفع مبتدأ وخبره ، الجملة الاسمية من المبتدأ وخبره وهي { فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ } {[4069]} الوقر – بالفتح – معناه : الثقل في الأذن ، - وبالكسر – الحمل {[4070]} . والمعنى : أن الجاحدين المكذبين في آذانهم ثقل أو صمم فلا يستمعون هذا القرآن ؛ لأنهم مفرِّطون فيه ، معرضون عنه ؛ لسوء طبعهم وفساد فطرتهم وشدة عنادهم { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي أنهم عمي عن هذا القرآن فلا يبصرون ما فيه من دلائل وبينات أو أن قلوبهم عمياء عن هذا القرآن وما فيه من عظيم المعاني ومن ظواهر الإعجاز .
قوله : { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يقال ذلك لمن لا يفهم ، على سبيل التمثيل . فالذي يفهم يقال له : أنت تسمع من قريب . والذي لا يفهم يقال له : أنت تنادي من بعيد ؛ فهو كأنه ينادي من مكان بعيد منه ، لأنه لا يسمع النداء ولا يفهمه ، وقيل : من دُعي من مكان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم ، وذلك حال هؤلاء المكذبين المعرضين عن القرآن .