قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ } أي جعلنا هذا الكتاب الذي يقرؤه على الناس قرآناه أعجميًّا بغير لغة العرب { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها .
قوله : «أَأَعْجَمِيٌّ » قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيق الهمزة ، وهشام بإسقاط الأولى ، والباقون : بتسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ{[48902]} . وأما المدّ فقد عرف حكمه من قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] في أول الكتاب . فمن استفهم قال معناه أكتاب أعجمي ورسول عربي{[48903]} ؟
وقيل : ومرسل إليه عربي{[48904]} ؟ وقيل : معناه ( أ{[48905]} ) بعضه أعجمي وبعضه عربي{[48906]} ؟ ومن لم يثبت همزة الاستفهام فيحتمل أنه حملها{[48907]} لفظاً وأرادها معنى ، وفيه توافق القراءتين ، إلا أن ذلك لا يجوز عند الجمهور إلا{[48908]} إذا كان في الكلام «أم » نحو : بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ{[48909]} .
فإن لم يكن «أم » لم يجز إلا عند الأخفش{[48910]} . وتقدم ما فيه .
ويحتمل أن يكون جعله خبراً محضاً ويكون معناه : هلا فُصِّلت آياتُهُ فكان بعضها أعجمياً يفهم العجم وبضعه عربياً يفهمه العرب{[48911]} . والأعجمي من لا يفصح ، وإن كان من العرب{[48912]} وهو منسوب إلى صفته ، كأحمريّ ، ودوّاريّ ؛ فالياء فيه للمبالغة في الوصف وليس فيه حقيقياً{[48913]} . وقال الرازي في لوامحه : فهو كياء كُرْسيّ وبختيّ{[48914]} .
وفرق أبو حيان بينهما فقال : ليست كياء كُرسيّ ، فإنَّ ياء كرسيِّ وبختيّ بُنِيَت الكلمة عليها بخلاف ياء «أعْجَمِيٍّ » فإنهم يقولون : رجلٌ أعجم وأَعجميٌّ{[48915]} .
وقرأ عمرو بن ميمونٍ{[48916]} أعَجميّ بفتح العين{[48917]} وهو منسوب إلى العجم والياء فيه للنسب حقيقة ، ويقال : رجلٌ عجميّ وإن كان فصحياً . وقد تقدم الفرق بينهما في سورة الشعراء{[48918]} . وفي رفع أعجمي ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره أعجمي وعربي يستويان .
والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربيٌّ .
والثالث : أنه فاعل فعل مضمر ، أي أيستوي عجميٌّ وعربيٌّ{[48919]} ؟ . إذ لا يحذف الفعلُ إلا في مواضع تقدم بيانها .
قال المفسرون : هذا استفهام على وجه الإنكار ، لأنهم كانوا يقولون : المُنزَّلُ عليه عربي ، والمُنَزَّلُ أعجمي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار{[48920]} غلام عامر بن الحضرمي وكان يهوديًّا أعجمياً يكنى أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال : إنك تعلِّمُ محمداً فقال يسار : هو يعلّمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية{[48921]} . وقال ابن الخطيب : نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا : هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية . وعندي : أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن ، لأن يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض ، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتاباً منتظماً ؟ ! فضلاً عن ادِّعاء كونه معجزاً ؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر } وهذا الكلام متعلق به أيضاً وجوب له والتقدير : إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ؟ ويصح لهم أن يقولوا : قلوبنا في أكنة من هذا الكلام ، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه .
أما لمَّا نزل{[48922]} هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يُمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها ؟ ! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم ، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيبٌ جدًّا{[48923]} .
قوله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب . وقيل : شفاءٌ من الأوجاع{[48924]} . قال ابن الخطيب : هذا متعلق بقولهم : { قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } . . الآية [ فصلت : 5 ] كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق ، وقلباً داعياً إلى الصدق وهمَّةً تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هُدًى وشفاء . أما كونه هدى فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى ، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل ، وأما من غرق في بحر الخِذْلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنَّ هذا القرآن عليهم عَمًى ، كما قال : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] أولئك يُنادون من مكان بعيدٍ بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف{[48925]} علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه ؛ لأن السورة تصير من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً منسوقاً نحو غرض واحد{[48926]} .
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ و«في آذانِهِم » خبره و«وَقْرٌ » فاعل ، أو «في آذَانِهِم » خبر مقدم و«وقر » مبتدأ مؤخر ، فالجملة خبر الأول{[48927]} .
الثاني : أن «وقراً » خبر مبتدأ مضمر ، والجملة خبر الأول ، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم . لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمًى عليهم{[48928]} ، قال معناه الزمخشري . ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه{[48929]} .
الثالث : أن يكون «الذين لا يؤمنون » عطفاً على «الذين آمنوا » و«وَقْرٌ » عطف على «هُدى »{[48930]} . وهذا باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها .
قوله : «عَمًى » العامة على فتح الميم المنونة ، وهو مصدر لعَمِي يَعْمَى عَمًى ، نحو : صَدِيَ يَصْدَى صَدًى وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى . وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزُّبير وجماعةٌ عم بسكرها منونة{[48931]} اسماً منقوصاً ، وصف بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ، ورُويت عن ابن عباس : «عَمِيَ » بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً{[48932]} . وفي الضمير وجهان :
والثاني : أنه للوقر ، والمعنى يأباه و«في آذانهم » إن تجعله خبراً تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل ، ولا يتعلق به لأنه مصدر ، فلا يتقدم معموله عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق «على » بما بعده إذ ليس بمصدر . قال أبو عبيد : والأولى هي الوجه ، لقوله : { هُدًى وَشِفَآءٌ } وكذلك «عمى » وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هادٍ وشافٍ لكان الكسر في «عَمِيَ » أجود ، فيكون نعتاً لهما .
قال قتادة : عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه ، فلا ينتفعون به . { أولئك ينادون من مكان بعيد } قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء .
وقيل : من دعي من كان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء ، وهذا مثل لقلّة انتفاعِهِمْ بما يُوعظُونَ بِهِ{[48933]} .