الآية 44 وقوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } وقال ، في آية أخرى : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ } { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 198 و 199 ] .
وقال في موضع آخر : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] .
يذكر في هذه الآيات كلها سفه أهل مكة وشدة تعنّتهم ؛ يقول : لو نزّلنا عليك الكتاب جملة في قرطاس بحيث يرون نزوله من السماء ، ويعاينونه ، لقالوا : ما هذا إلا سحر مبين ، ويقول أيضا ، والله أعلم : ولو نزّلنا هذا القرآن على بعض الأعجميّين بلسان [ العرب ]{[18568]} { فقرأه عليهم } أي على أهل مكة بلسان العرب بحيث يفهمون { ما كانوا به مؤمنين } [ الشعراء : 199 } لأن قراءة الأعجمي إياه بلسان العرب أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من قراءة العربي بلسان العربية ، أي قراءة كل أحد شيئا بغير اللسان الذي ، هو لسانه ، أكبر في الآية وأعظم في الأعجوبة من القراءة بلسان ، هو لسانه .
يقول : لو نزّلناه{[18569]} على من لسانه لسان العجم ، والقرآن عربيّ ، فقرأ الأعجميّ ذلك على أهل مكة بلسان العرب ، وهو أكبر أعجوبة وأعظم في الآية ، لكانوا لا يؤمنون به .
فعلى ذلك يقول ، والله أعلم : { لو جعلناه قرآنا أَعجميًّا } وعاينوا نزول ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم ، وفهِمه ، وأدّاه ، وقرأه عليهم بلسان العرب { لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ } يعنون القرآن { وعَربيٌّ } أي محمد صلى الله عليه وسلم ؟
يقولون : القرآن أعجميّ ، ومحمد عربيّ ؟ كيف يكون هذا ؟ أي لا يكون هذا ، ويكذّبونه ، ولا يؤمنون به . وذلك لما ذكرنا أن أداءه بلسان ، ليس ذلك لسانه ، وقراءته بغير ذلك اللسان أكثر في جعله آية وأعظم الأعجوبة ؛ إذ يكمُن{[18570]} الاختلاف من نفسه باللسان الذي هو لسانه ، وموهوم ذلك ، وغير موهوم ، ذلك إذا لم يكن ذلك لسانه . يخبر عن سفههم وشدة عنادهم في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، والله أعلم .
وقال بعض أهل التأويل : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يدخل على رجل أعجميّ يقال له : أبو فُكَيهة ، فقالوا : { إنما يعلّمه بشر } [ النحل : 103 ] فأنزل الله تعالى : { ولو جعلناه قرآنا أعجميّا } بلسان أعجميّ لقال كفار مكة : { لولا فصّلت آياته } بالعربية ، أي بُيّنت حتى يفقهها ، ويعلّمها ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ولقالوا : { أأعجميّ } أُنزل القرآن{[18571]} ومحمد عربيّ ؟ فأنزله عربيّا ليفقهوه ، فلا يكون لهم الاعتلال والاحتجاج .
وقال بعضهم : { لولا فصّلت آياته } حتى يفقهها أعجميّ القرآن وعربيّ اللسان{[18572]} .
وقال أبو معاذ : يكون معنى هذا أن الله تعالى يستفهم : { قرآنا أعجميا } على رجل عربيّ ؟ فلا يفهمونه{[18573]} ؟ فتكون الحجة عليهم{[18574]} بذلك . وهو مثل الأول .
وقال بعضهم : { أأعجميّ وعربيّ } : استفهام من قريش : يكون معناه لو أنزلنا قرآنا /486–ب/ أعجميّا على رجل عربيّ لقالوا : { أأعجميّ وعربيّ } كيف يفهم هذا ؟ وكيف يعقله ؟
لكنا قد ذكرنا أن هذا في الدلالة أكثر ، وفي الأعجوبة أعظم ، والوجه فيه ما ذكرنا بدءا .
وقال القتبيّ : { لولا فصّلت آياته } أُنزلت عربية مُفصّلة : للآي كان التفصيل بلسان العرب .
لكن لسنا ندري ما يريد بهذا الكلام أن التفصيل بلسان العرب .
وقال بعضهم : { لولا فصّلت آياته } أي هلاّ فرّقت آياته حتى جُعل من كل لسان : من لسان العجم ولسان العرب حتى يفهمهما أهل كل لسان ، والله أعلم .
وفي هذه الآية دلالة على أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآنا ، وأن اختلاف اللسان لا يغيّره ، ولا يحوّله عن أن يكون قرآنا ، والله أعلم . فيكون دليلا لقول أبي حنيفة ، رحمه الله : إنه إذا قرأه [ المرء ]{[18575]} بالفارسية في صلاته تجوز [ صلاته ]{[18576]} والله أعلم .
[ وقوله تعالى ]{[18577]} : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وصف الله تعالى هذا القرآن بالشفاء والرحمة والهدى ، وسمّاه مرة عزيزا [ بقوله : { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ومرة كريما بقوله : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] ومرة مجيدا بقوله { ق والقرآن المجيد } [ ق : 1 والبروج : 21 ] ومرة حكيما بقوله : { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذّكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ولقمان : 2 ويس : 2 ]{[18578]} ونحوه .
فهو هدى من الضلالة والحيرة والشكّ وكل شُبْهَة ، وشفاء لكل داء وسُقم يكون في الدين والأنفس جميعا . هو شفاء لذلك كله ، وهو هدى . ثم يحتمل الهدى وجهين في هذا الموضع :
أحدهما : هو هدى لكل ضلالة ، أي دعاء إلى الذي يضادّ الضلال .
والثاني : هدى ، أي جُعل بيانا لكل حيرة وشك وشُبهة ؛ من اتبعه ، وقبِله ، ونظر إليه بعين التعظيم والتبجيل دعاه إلى سبيله ودينه ، ويخرجه من الضلال ، ويكون بيانا لكل من فيه الحيرة والشك والشُّبهة ، ويُخلي له الطريق ، ويوضح له السبيل ، ويُخرجه من الشّبهات .
فهو للمؤمنين الهدى والشفاء ، لأنهم قبلوه ، واتبعوه ، وتكفّلوا العمل بما فيه .
وأما الكفرة فهو عليهم عمى وحيرة وشك ، لأنهم لم يتقبّلوه ، ولم يتّبعوه ، ونظروا إليه بالاستخفاف والهوان ، ونبذوه وراء ظهورهم ، فلم يبصروا ما فيه ، فصار{[18579]} لهم عمى وما ذكر ، والله أعلم . ولذلك قال تعالى : { أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } .
سمّاهم غيبة ، وإن كانوا بأنفسهم حضورا ، وسمّاهم { الموتى } [ النمل : 80 والروم : 52 ] وإن كانوا في الحقيقة أحياء ، وسمّاهم صمًّا وبُكمًا وعُميًا [ البقرة : 18 و171 ] وإن كانت لهم هذه الجوارح [ في الحقيقة لما لم ينتفعوا بهذه الجوارح ]{[18580]} بالذي جُعلت هذه الجوارح له ، وأنشِئت ، فنفاها عنهم ليُعلَم أن المقصود بإنشاء هذه الجوارح والأنفس لا نفس هذه الجوارح والأنفس ولكن طلب ما غاب عنها ، وخفي ، إذ أنفسهم في الحقيقة كانت شهودا وحضورا .
سمّاهم غيبة{[18581]} وسمّاهم موتى وعُميا وما ذكر ليُعلم أنها إنما جُعلت ليكتسبوا بها الحياة الدائمة والبصر الدائم وما ذكر من كل شيء من السمع وغيره . وكذلك هذه النّعم التي جُعلت ليكتسبوا بها النعم الدائمة ، فإذا لم يستعملوها في ما جُعلت صاروا كما ذكر ، والله أعلم .
وقال بعضهم : { وهو عليهم عمًى } أي عموا عنه . وقال بعضهم : { وهو عليهم عمى } أي في الآخرة جزاء بما نسوه في الدنيا كقوله تعالى : { لم حشرتني أعمى } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى } [ طه : 125 و126 ] .
وقيل : قوله تعالى : { ينادون من مكان بعيد } [ عبارة عن قلة أفهامِهم ؛ يقال للرجل الذي لا يفهم : أنت تُنادى من مكان بعيد ]{[18582]} والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.