{ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي ، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه ، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها ؛ وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين . الأول : أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد . الثاني : أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جل جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب ، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب ، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] ولو قدم المؤخر لاختل النظم ، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث ، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم ، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل : { أَوْ يُزَوّجُهُمْ } أي الأولاد { ذُكْرَاناً وإناثا } أي يخلق ما يهبهم زوجاً لأن التزويج جعل الشيء زوجاً فذكراناً وأناثاً حال من الضمير ، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقاً ووجوداً فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك ، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معالاً أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجاً ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله ، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة ، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له ، ثم قيل : { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر ، وكأنه جيء بأو في { أَوْ يُزَوّجُهُمْ } دون الواو كما في سابقه من حيث أنه قسم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل ، وقيل قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لاسيما وكانوا قريبي العهد بالوأد ، وفي الحديث «من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار » وقيل : قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه ، وقيل : لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمهن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى ، وقال الثعالبي : إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤوماً فيقولون له بكر بكرين ؛ وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى ، وقيل : قدمت وأخر الذكور معرفاً للمحافظة على الفواصل ، والمناسب للسياق ما علمت سابقاً ، وقال مجاهد في { أَوْ يُزَوّجُهُمْ } التزويج أن تلد المرأة غلاماً ثم تلد جارية ، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما : هو أن تلد توأماً غلاماً وجارية . وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام أناثاً ولإبراهيم عليه السلام ذكوراً ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اه { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار .
قوله تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث ، { ويجعل من يشاء عقيماً } فلا يلد ولا يولد له . قيل : هذا في الأنبياء عليهم السلام { يهب لمن يشاء إناثاً } يعني : لوطاً لم يولد له ذكر ، إنما ولد له ابنتان ، { ويهب لمن يشاء الذكور } يعني : إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى ، { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يعني : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ولد له بنون وبنات ، { ويجعل من يشاء عقيماً } يحيى وعيسى عليهما السلام لم يولد لهما ، وهذا على وجه التمثيل ، والآية عامة في حق كافة الناس . { إنه عليم قدير } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذكرانا وإناثا} يعني يولد له مرة بنين وبنات ذكورا وإناثا، فنجعلهم له.
{ويجعل من يشاء عقيما}، لا يولد له. {إنه عليم} بخلقه، {قدير} في أمر الولد والعقم وغيره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانا وَإناثا": يهب لهم إناثا وذكرانا، ويجعل من يشاء عقيما لا يُولدَ له.
"إنّهُ عَلِيم قَدِيرٌ": إن الله ذو علم بما يخلق، وقُدرة على خلق ما يشاء لا يعزب عنه علم شيء من خلقه، ولا يعجزه شيء أراد خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أو يزوّجُهم ذُكرانا وإناثا} التزويج هو الجمع بين الشكلين والمتماثلين في الحقيقة. وقد يسمّى التزويج بين المتضادّين مجازا، والله أعلم. فيكون معنى قوله: {أو يزوّجهم ذكرانا وإناثا} أي يقرن، ويجمع بين الإناث والذكور، فيهب له من النوعين جميعا حالة واحدة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من أقسام الموهوبين الثلاثة، عطف على الإنعام بالهبة سلب ذلك، فقال موضع أن يقال مثلاً: ولا يهب شيئاً من ذلك لمن يشاء: {ويجعل من يشاء عقيماً} أي لا يولد له كيحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام -كذا قالوه، والظاهر أنه لا يصح مثالاً فإنه لم يتزوج، قال ابن ميلق: وأصل العقيم اليبس المانع من قابلية التأثر لما من شأنه أن يؤثر، والداء العقام هو الذي لا يقبل البرء- انتهى. فهذا الذي ذكر أصرح في المراد لأجل ذكر العقم، وأدل على القدرة؛ لأنه شامل لمن له قوة الجماع والإنزال لئلا يظن أن عدم الولد لعدم تعاطي أسبابه، وذكروا في هذا القسم عيسى عليه الصلاة والسلام. ولا يصح لأنه ورد أنه يتزوج بعد نزوله ويولد له، وهذه القسمة الرباعية في الأصول كالقسمة الرباعية في الفروع، بعضهم لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه الصلاة والسلام، وبعضهم من ذكر فقط كحواء عليها السلام، وبعضهم من أنثى فقط كعيسى عليه السلام وبعضهم من ذكر وأنثى وهم أغلب الناس، فتمت الدلالة على أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يشأ لم يكن، ولا مكون له ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
ولما دل هذا الدليل الشهودي على ما بنيت الآية عليه من إثبات الملك له وحده مع ما زادت به من جنس السياق وعذوبة الألفاظ وإحكام الشك وإعجاز الترتيب والنظم، كانت النتيجة قطعاً مؤكدة لتضمن إشراكهم به الطعن في توحده بالملك مقدماً فيها الوصف الذي هو أعظم شروط الملك:
{إنه عليم} أي بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} شامل القدرة على تكوين ما يشاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إِنَّهُ عَلِيمٌ قدير} جملة في موضع العلة للمبدل منه وهو {يخلق ما يشاء} فموقع (إنّ) هنا موقع فاء التفريع. والمعنى: أن خلقه ما يشاء ليس خلقاً مهملاً عرياً عن الحكمة لأنه واسع العلم لا يفوته شيء من المعلومات فخلقه الأشياء يجري على وفق علمه وحكمته. وهو {قدير} نافذ القدرة فإذا علم الحكمة في خلق شيء أراده، فجرى على قَدَره. ولمّا جمع بين وصفي العلم والقدرة تعين أن هنالك صفة مطوية وهي الإرادة لأنه إنما تتعلق قدرته بعد تعلق إرادته بالكائن.
وتفصيلُ المعنى: أنه عليم بالأسباب والقُوى والمؤثرات التي وضعها في العوالم، وبتوافق آثار بعضها وتخالف بعض، وكيف تتكون الكائنات على نحو ما قُدِّر لها من الأوضاع، وكيف تتظاهر فتأتي الآثار على نسق واحد، وتتمانع فينقص تأثير بعضها في آثاره بسبب ممانعة مؤثراتٍ أخرى وكل ذلك من مظاهر علمه تعالى في أصل التكوين العالمي ومظاهر قدرته في الجري على وفاق علمه.
ثم يُرقِّى الحق سبحانه عطاءه للعبد، فيقول {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً..} يعني: يزاوج بين النوعين، فيهب لك الذكور ويهب لك الإناث.
{وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} يعني: يحرم هذه الهبة لحكمة أرادها الله.
وحتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يتعالى أحد على أحد يُعلِّمنا ربنا عز وجل أن مسألة الإنجاب هذه أو عدم الإنجاب لا تؤثر على منازل العباد عند الله تعالى، فحين أهَب الذكور أو الإناث أو أزواج بينهما لا يعني هذا رضاي عن عبدي، وحين أحرمه لا يعني هذا سخطي على عبدي، إنما هي سنتي في خَلْقي أنْ أهبَ الذكور وأنْ أهبَ الإناث، وأنْ أجعل مَنْ أشاء عقيماً.
لذلك تجدون هذه السُّنة نافذة حتى في الرسل الذين هم أكرم الخَلْق على الله، فسيدنا لوط وسيدنا شعيب وهبهما اللهُ الإناثَ، وسيدنا إبراهيم وهبه الله الذكور، وسيدنا محمد وهبه الله الذكور والإناث، فكان له عبد الله والقاسم وإبراهيم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
إذن: لكم في رسول الله أسْوة حسنة. والذين يستقبلون أقدار الله في هذه المسألة بالرضا، ويرتفع عندهم مقام الإيمان والتسليم، ويؤمنون أن هذه هبة من الله حتى العقم يعتبرونه هبة، هؤلاء يُعوِّضهم الله، فحين ترضى مثلاً بالبنات وتُربِّيهن أحسن تربية، وتُحسن إليهنَّ يجعل الله لك من أزواجهن مَنْ يُعوِّضك عن الولد، وربما كانوا أبرَّ بك من الأبناء بآبائهم.
وتختتم الآية بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} والعليم يهب على قَدْر علمه بالأمور، وبما يصلح عبده وما لا يُصلحه، فهو وحده سبحانه الذي يعلم أن هذا يصلح هنا، وهذا يصلح هنا، ثم هو سبحانه {قَدِيرٌ} له القدرة المطلقة في مسألة الخَلْق، لا يعجزه شيء ولا تقيده الأسباب.