روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (6)

وقوله تعالى : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } يحتمل أن يكون تكريراً للجملة السابقة لتقرير معناها وفي النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعداً مستأنفاً وال والتنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة واحتمال الاستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والاستئناف نحوى وتجرده عن الواو أكثر من أن يحصى ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل وقال عصام الدين لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلا أنه أوثر التنكير التفخيم وقد يقال إن فائدته الظهور في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والاشعار بالفرق بين العسر واليسر ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين أن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وأفاد بعض الأجلة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلى الله عليه وسلم بتيسير كل عسير فالفاء قيل سيبية ودخلت على السبب وان تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر وال في العسر للاستغراق فيدخل فيه سبب النزول والتنوين في يسرا على ما سبق كأنه قيل فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسراً عظيماً كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك وقال بعضهم الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول اما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ فاعلم بذلك إن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف أيضاً هو الراجح لما تقدم وعلى اتحاد العسر وتعديد اليسر يكون الحاصل من الجملتين إن مع كل عسر يسرين عظيمين والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي وقيل الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك والكلام نظير قولك أن مع الفارس رمحاً أن مع الفارس رمحاً وهو ظاهر وحدة الفارس والرمح ولن يغلب عسر يسرين ليس نصاً في الحمل على الاستئناف إذ يصح على التأكيد أيضاً بأن يكون مبنياً على كون التنوين في يسراً للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضاً لن يغلب عسر يسرين وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مع لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر واتصاله به واستشكل أمر الاستغراق بأن من العسر ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من العسر مالاً يعقبه يسر أخروي أيضاً كعسر الكافر والجواب أن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجمل الله تعالى بعده فرجاً ولن يغلب عسر يسرين لا يحسم الاشكال إذ يبقى معه إن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه بسر أخروي أيضاً وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها إن من عسره أيضاً ما لا يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على وجه التأكيد بأن الاستغراق عرفي ويكفي فيه أن العسر في الغالب يقبه يسر وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمن الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وإن لم تذكر قيل ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لن يغلب عسران شاء الله تعالى يسرين ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع على ظاهرها والتنوين في يسراً للنوعية ولا اشكال في الاستغراق إذ لا يخلو لمرة في حال العسر عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضاً ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين اما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية أو لأن الآية أفادت ان مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عسر يُسْراً } [ الطلاق : 7 ] إن كان نزوله متقدماً وذكر بعضم ان المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى ان كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره

. وتعذيبكم عذب لدى وجوركم *** على بما يقضي الهوى لكم عدل

وقول الآخر ز :

برجا تم أزتوهرجه *** رسد جاي منت است كدناوك جفا ست

وكر خنجر ستم *** وتسمية ذلك عسراً لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى ثم أنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حجر فقال عليه الصلاة والسلام لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فانزل الله تعالى إن مع العسر يسراً الخ ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مع العسر يسرا وإرادة العهد اسلم من القيل والقال وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقاً بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعاً إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر . وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى العسر ويسرا في الموضعين بضم السين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا} (6)

ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدة ، وذلك أنه كان بمكة في شدة . فقال :{ فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسراً ورخاءً بأن يظهرك عليه حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به ، { إن مع العسر يسرا } كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء . وقال الحسن لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبشروا ، قد جاءكم اليسر ، لن يغلب عسر يسرين " . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنه لن يغلب عسر يسرين . قال المفسرون : ومعنى قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله تعالى كرر العسر بلفظ المعرفة واليسر بلفظ النكرة ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفاً ، ثم أعادته كان الثاني هو الأول ، وإذا ذكرت نكرة ثم أعادته مثله صار اثنين ، وإذا أعادته معرفة فالثاني هو الأول ، كقولك : إذا كسبت درهماً أنفقت درهماً ، فالثاني غير الأول ، وإذا قلت : إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم ، فالثاني هو الأول ، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف ، فكان عسراً واحداً ، واليسر مكرر بلفظ النكرة ، فكانا يسرين ، كأنه قال : فإن مع العسر يسراً ، إن مع ذلك العسر يسراً آخر . وقال أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب النظم : تكلم الناس في قوله : " لن يغلب عسر يسرين " فلم يحصل منه غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة ، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران ، وهذا قول مدخول ، إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً ، فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين ، فمجاز قوله : " لن يغلب عسر يسرين " أن الله تعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقل مخف ، فكانت قريش تعيره بذلك ، حتى قالوا : إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة ، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، فظن أن قومه إنما يكذبونه لفقره ، فعدد الله نعمه عليه في هذه السورة ، ووعده الغنى ، يسليه بذلك عما خامره من الغم ، فقال : { فإن مع العسر يسراً } مجازه : لا يحزنك ما يقولون فإن مع العسر يسراً في الدنيا عاجلاً ، ثم أنجزه ما وعده ، وفتح عليه القرى العربية ووسع عليه ذات يده ، حتى كان يعطي المئين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ثم ابتدأ فضلاً آخر من أمر الآخرة ، فقال : إن مع العسر يسراً ، والدليل على ابتدائه : تعريه من الفاء والواو ، وهذا وعد لجميع المؤمنين ، ومجازه : إن مع العسر يسراً ، أي : إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسراً في الآخرة ، فربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الثانية . فقوله عليه السلام : " لن يغلب عسر يسرين " ، أي : لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعده للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، وإنما يغلب أحدهما ، وهو يسر الدنيا ، وأما يسر الآخرة فدائم غير زائل ، أي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " شهرا عيد لا ينقصان " أي لا يجتمعان في النقصان .