{ قَالُواْ } أي في ابتداء بعثهم من القبور { يَا وَيْلَنَا } أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا أنظروا ويلنا وتعجبوا منه . وعلى حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء .
وقرأ ابن أبي ليلى يا ويلتنا بتاء التأنيث ، وعنه أيضاً { *يا ويلتي } بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة ، والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي { قَالُواْ يا ويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا ، وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والاستراحة من الأفعال الاختيارية ، ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياماً ولم يكن لهم ءدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم ، وقيل سموا ذلك مرقداً مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدواه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جبنها فيقولون ذلك .
وأخرج الفريابي . وعبد بن حميد . وابن جرير وابن المنذر . وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال : ينامون قبل البعث نومة ، وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال : للكفار هجعة يجدون فيها طعم النون قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور يقولون { قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا : ذلك .
وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت .
وقرأ أمير المؤمنين علي . وابن عباس . والضحاك . وأبو نهيك { مَن بَعَثَنَا } بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالاً منه . ونحوه في الخبر .
ويلي عليك وويلي منك يا رجل . *** ومن الثانية متعلق ببعث .
وعن ابن مسعود أنه قرأ { مِنْ } بمن الاستفهامية وأهب بالهمزة من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته .
وعن أبي أنه قرأ { *هبنا } بلا همز قال ابن جنى : وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أصلاً ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفاً أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل ، وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيظنا ، وقال البيضاوي : هبنا بدون الهمة بمعنى أهبنا بالهمز ، وقرئ { مِنْ } بمن الجارة والمصدر من هب يهب { هذا مَا * وَعَدَ الرحمن } جملة من مبتدأ وخبر { وَصَدَقَ المرسلون } عطف على ما في حيز ما ، وعطفه على الجملة الاسمية أو جعله حالاً بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر ، وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيداً الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، وهو على ما قيل جواب من جهته عز وجل على ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين ؛ وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيراً لكفرهم وتقريعاً لهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل ، وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا الباعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع ، وفيه من تقريعهم ما فيه .
وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعدما سبق من قولهم { متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } [ يس : 48 ] فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل ، وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر ، وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل إشارة إلى زيادة التقريع من حيث أن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بالا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه ، وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم ، واختصاص رحمة الرحمة بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما .
وقال ابن زيد : هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليه السلام أو أجاب بعضهم بعضاً ، وآثروا اسم الرحمن طمعاً في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز وجل ، وجوز الزجاج كون { هذا } صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه ، وقد روى عن حفص أنه وقف عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماعة القراء على الوقف على { مَّرْقَدِنَا } غير تامة ، وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد ، وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق ، ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس سره في «تفسيره » المسمى ب «إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن » ومن خطه الشريف نقلت { الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ } [ البقرة : 146 ] الآية بعد قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مّن بَعْدَمَا جَاءكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين } [ البقرة : 145 ] وقوله تعالى : { فِيهِ هُدًى –بعْد- لاَ رَيْبَ } [ البقرة : 2 ] فليحفظ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ" يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون لما نُفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فردّت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها: "يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا "وقد قيل: إن ذلك نومة بين النفختين...
ويعني بقوله: "مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا" من أيقظنا من منامنا...
وفي قوله: "هَذَا" وجهان: أحدهما: أن تكون إشارة إلى «ما»، ويكون ذلك كلاما مبتدأ بعد تناهي الخبر الأوّل بقوله: "مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا" فتكون «ما» حينئذٍ مرفوعة بهذا، ويكون معنى الكلام: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلون. والوجه الآخر: أن تكون من صفة المرقد، وتكون خفضا وردّا على المرقد، وعند تمام الخبر عن الأوّل، فيكون معنى الكلام: من بعثنا من مرقدنا هذا، ثم يبتدىء الكلام فيقال: ما وعدَ الرحمن، بمعنى: بعثكم وعد الرحمن، فتكون «ما» حينئذٍ رفعا على هذا المعنى.
وقد اختلف أهل التأويل في الذي يقول حينئذٍ: "هذا ما وعد الرحمن"، فقال بعضهم: يقول ذلك أهل الإيمان بالله...
وقال آخرون: بل كلا القولين، أعني "يا وَيْلَنا مَنْ بَعثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا ما وَعَدَ الرّحْمَنُ وَصَدَق المُرْسَلُونَ" من قول الكفار...
والقول الأوّل أشبه بظاهر التنزيل، وهو أن يكون من كلام المؤمنين، لأن الكفار في قيلهم: "مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا" دليل على أنهم كانوا بمن بعثهم من مَرْقَدهم جُهّالاً، ولذلك من جهلهم استثبتوا، ومحال أن يكونوا استثبتوا ذلك إلاّ من غيرهم، ممن خالفت صفته صفتهم في ذلك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نداؤهم الويل بمعنى هذا وقتك وأوان حضورك، ويحتمل أن يكون نصب الويل على المصدر والمنادى محذوف، كأنهم قالوا يا قومنا ويلنا.
وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا» بتاء التأنيث، وقرأ الجمهور «مَن بعثنا» بفتح الميم على معنى الاستفهام، وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ «مِن بْعثِنا» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر، وفي قراءة ابن مسعود، «من أهبنا من مرقدنا» أي من نبهنا، وفي قراءة أبي بن كعب «من هبنا»، قال أبو الفتح ولم أرَ لها في اللغة أصلاً ولا مر بنا "مهبوب"، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه.
{من مرقدنا} يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة، ويروى عن أبي بن كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر، قال القاضي أبو محمد: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في قولهم {من مرقدنا} أنها استعارة وتشبيه، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة.
واختلف في هذه المقالة من قالها: وقالت فرقة: ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف.
{قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} يعني لما بعثوا قالوا ذلك، لأن قوله: {ونفخ في الصور} يدل على أنهم بعثوا. وفيه مسائل:
المسألة الثالثة: ما وجه تعلق: {من بعثنا من مرقدنا} بقولهم: {يا ويلنا} نقول لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل، فقالوا: يا ولينا من بعثنا؟ أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياما فنبهنا؟ وهذا كما إذا كان إنسان موعودا بأن يأتيه عدو لا يطيقه، ثم يرى رجلا هائلا يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول: هذا ذلك أم لا؟ ويدل على ذكرنا قولهم: {من مرقدنا} حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياما فنبهوا أو كانوا موتى، وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين، فقالوا: {من بعثنا} إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به، وقالوا: {من مرقدنا} إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه.
المسألة الرابعة: {هذا} إشارة إلى ماذا؟ نقول فيه وجهان؛
أحدهما: أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا: من بعثنا من مرقدنا هذا؛ فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق.
وثانيهما: {هذا} إشارة إلى البعث، أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون.
المسألة الخامسة: إذا كان هذا صفة للمرقد فكيف يصح قوله تعالى: {ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}؟ نقول يكون ما وعد به الرحمن، مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق، والمرسلون صدقوا، أو يقال ما وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون حق، والأول أظهر لقلة الإضمار، أو يقال ما وعد الرحمن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ما وعد الرحمن من البعث ليس تنبيها من النوم، وصدق المرسلون فيما أخبروكم به.
يعني لما بعثوا قالوا ذلك، لأن قوله: {ونفخ في الصور} يدل على أنهم بعثواالمسألة الرابعة: {هذا} إشارة إلى ماذا؟ نقول فيه وجهان؛
أحدهما: أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا: من بعثنا من مرقدنا هذا فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق.
وثانيهما: {هذا} إشارة إلى البعث، أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
المرقد: استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدراً أي من رقادنا، وهو أجود.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون، استأنف قوله: {قالوا} أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين قاموا بالنفخة، وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك.
ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي، اتبعوه قولهم حاكياً سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم: {يا ويلنا} أي ليس بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل، ثم استفهموا جرباً على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين لضميرهم تخصيصاً للويل بهم؛ لأنهم في معرض الشك: {من بعثنا من مرقدنا} عدوا مكانهم الذين كانوا به -مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ- مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة، ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً: {هذا ما} أي الوعد الذي {وعد} أي به، وحذفوا المفعول تعميماً؛ لأنهم الآن في حيز التصديق {الرحمن} أي العام الرحمة الذي رحمانيته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه، ويجازي كلاًّ بعمله من غير حيف، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك، وطال ما أنذرونا حلوله، وحذرونا صعوبته وطوله.
{المرسلون} أي الذين أتونا بوعده ووعيده، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به رسله هو الذي بعثنا تصديقاً لوعده ورسله.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
لا تحسب أن ذكر الرحمن في هذا الموضع، لمجرد الخبر عن وعده، وإنما ذلك للإخبار بأنه في ذلك اليوم العظيم، سيرون من رحمته ما لا يخطر على الظنون، ولا حسب به الحاسبون، كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} ونحو ذلك، مما يذكر اسمه الرحمن، في هذا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يا وَيْلَنَا} كلمة يقولها الواقع في مصيبة أو المُتحسِّر. والويل: سوء الحال، وحكي قولهم بصيغة الماضي اتباعاً لحكاية ما قبله بصيغة المضيّ لتحقيق الوقوع.
وحرف النداء الداخل على {ويلنا} للتنبيه وتنزيل الويل منزلة من يسمع فيُنادَى ليحضر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قالت يا ويلتى} في سورة هود (72).
و {مَن} استفهام عن فاعل البعث مستعمل في التعجّب والتحسّر من حصول البعث، ولما كان البعث عندهم محالاً كنّوا عن التعجب من حصوله بالتعجب من فاعله؛ لأن الأفعال الغريبة تتوجه العقول إلى معرفة فاعلها؛ لأنهم لما بُعثوا وأزْجي بهم إلى العذاب علموا أنه بعثٌ فعَله من أراد تعذيبهم.
ثم لم يلبثوا أن استحضرت نفوسهم ما كانوا يُنذرون به في الدنيا فاستأنفوا عن تعجبهم قولهم: {هذا ما وَعَدَ الرحمن وصَدَقَ المُرْسَلُونَ}. وهذا الكلام خبر مستعمل في لازم الفائدة وهو أنهم علموا سبب ما تعجبوا منه فبطل العجب، فيجوز أن يكونوا يقولون ذلك كما يتكلم المتحسّر بينه وبين نفسه، وأن يقوله بعضهم لبعض كل يظن أن صاحبه لم يتفطن للسبب فيريد أن يعلمه به.
وأتوا في التعبير عن اسم الجلالة بصفة الرحمان؛ إكمالاً للتحسر على تكذيبهم بالبعث بذكر ما كان مقارناً للبعث في تكذيبهم، وهو إنكار هذا الاسم كما قال تعالى: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60].
والإِشارة بقوله: {هذا} إشارة إلى الحالة المرْئية لِجميعهم وهي حالة خروجهم من الأرض.
وجملة {وصَدَقَ المُرْسَلُونَ} عطف على جملة {هذا ما وعَدَ الرحمن} وهو مستعمل في التحسّر على أن كذبوا الرسل.
وجَمع المرسلين مع أن المحكي كلامُ المشركين الذين يقولون {متى هذا الوعد} [يس: 48]؛ إمّا لأنهم استحضروا أن تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم كان باعثَه إحالتُهم أن يكون الله يرسل بَشراً رسولاً، فكان ذلك لأنهم لا يصدقون أحداً يأتي برسالة من الله كما حكى عنهم قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] فلما تحسروا على خطئهم ذكَروه بما يشمله ويشمل سبَبَه كقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} من سورة الشعراء (105)،، وإما لأن ذلك القول صدر عن جميع الكفار المبعوثين من جميع الأمم، فعلِمت كل أمة خطأها في تكذيب رسولها وخطأ غيرها في تكذيب رسلهم، فنطقوا جميعاً بما يفصح عن الخطأيْن، وقد مضى أن ضمير {فَإذَا هُم جَمِيعٌ} [يس: 53] يجوز أن يعود على جميع الناس.
واسم {الرحمن} حينئذٍ من كلام الملائكة لزيادة توبيخ الكفار على تجاهلهم به في الدنيا.
فإذا ما خرجوا من الأجداث ورأوا الحقيقة التي طالما كذَّبوها قالوا: {يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} هم الذين يقولون ويدْعُون على أنفسهم بالويل والثبور؛ لا أحد يقول لهم: ويلكم إنما يقولونها هم لأنفسهم، وهذا بيان للحسرة على ما فاتهم.
والمعنى: يا ويلنا احضر، فهذا أوانك، لأن الأمر فوق ما نحتمل، ولا نستطيع دفعه، والإنسان حين يُفاجأ بفساد رأيه يعود على نفسه باللوم، بل قد يضربها ويعذبها.
وعجيب منهم أنْ يقولوا الآن {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} فيعترفون بأن الموت كان مجرد مَرْقَد، والمرقد لا بُدَّ بعده من يقظة. عندها يردُّ عليهم: {هَذَا} أي: ما تروْنَه من أمور القيامة {مَا وَعَدَ الرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} ويجوز أنْ يكون اسم الإشارة {هَذَا} إشارة إلى {مَّرْقَدِنَا} في {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا}.
الحق -سبحانه وتعالى- أخبر أنه جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه، وأن مَنْ أفلت من عقوبات الدنيا وعذاب الحياة التي يعيشون فيها، فإن الله مُدَّخِر له عذاباً من نوع أشد؛ لأن الذين قاموا بالدعوة إلى الله أول الأمر واضطهِدوا وأُوذوا، منهم من مات في الاضطهاد قبل أنْ يرى انتصار الإسلام وغلبة المسلمين، وقبل أنْ يرى انتقامَ الله من أعدائه، فإذا كان الأمر كذلك فلا بُدَّ أن يُرِي الله هؤلاء المؤمنين عاقبةَ الكافرين وما نزل بهم من العذاب.
والوعد هنا رغم أنه إنذار بالشرِّ الذي ينتظرهم، إلا أنه في حقهم يُسمَّى وَعْداً لا وعيداً، لماذا؟ لأن التحذير من الشر قبل الوقوع فيه نعمة كبرى، كما في قوله تعالى في سورة الرحمن:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35-36].
فجعل النار والشُّواظ من آلاء الله؛ لأنه يُخوِّفهم بها، ويحذرهم منها، ولم يفاجئهم بها وهم أصحاء، ويسمعون ويبصرون، ويقدرون على الرجوع إلى الله والتوبة إليه، فهم في وقت المهلة والتدارك.
وكما تُحذِّر ولدك من الرسوب إنْ هو أهمل دروسه وتتوعده، إذن: فالوعيد هنا عَيْن النعمة؛ لذلك سُمِّي وعداً لا وعيداً.