روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥٓ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (47)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال ، وعبر بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً في الإنفاق على منهاج قوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] وتنبيهاً على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر ، وكذلك الاتيان بمن التبعيضية ، والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى ، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه ، وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى مايدفع البلاء عنهم قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } [ يس : 45 ] الخ والمعنى عليه ، إذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم انفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } والأول أظهر ، والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم انفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور ، وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون ، قيل : لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا : { أَنُطْعِمُ } الخ ، وقيل : سحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول ، وقيل : قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك ، وروي هذا عن مقاتل ، وقال ابن عباس : كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلاناً ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون .

وقال القشيري أيضاً : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين . وجوز أن يكون مبنياً على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع ، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك . وعن الحسن . وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك .

وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفس غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أنفق .

وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن { نُطْعِمُ } بمعنى نعطي وليس بذاك ، و { أَطْعَمَهُ } جواب { لَوْ } وورود الموجب جواباً بغير لام فصيح ومه { أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم } [ الأعراف : 100 ] { لو نشاء جعلناه اجاجا } [ الواقعة : 70 ] نعم الأكثر محيئه باللام .

والظاهر أن قوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز وجل ، ولعمري أن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له ، ويجوز أن يكون جواباً من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافاً بيانياً جواباً لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم ؟

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥٓ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (47)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المشركين بالله: أنفقوا من رزق الله الذي رزقكم، فأدّوا منه ما فرض الله عليكم فيه لأهل حاجتكم ومسكنتكم، قال الذين أنكروا وحدانية الله، وعبدوا مَنْ دونه للذين آمنوا بالله ورسوله: أنطعم أموالنا وطعامنا "مَنْ لو يشاء الله أطعمه"؟.

وفي قوله: {إنْ أنْتُمْ إلاّ فِي ضَلالٍ مُبِين} وجهان: أحدهما أن يكون من قيل الكفار للمؤمنين، فيكون تأويل الكلام حينئذٍ: ما أنتم أيها القومُ في قيلكم لنا: أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم، إلا في ذهاب عن الحقّ، وجور عن الرشد مُبِين لمن تأمله وتدبره، أنه في ضلال وهذا أَوْلى وجهيه بتأويله. والوجه الآخر: أن يكون ذلك من قيل الله للمشركين، فيكون تأويله حينئذٍ: ما أنتم أيها الكافرون في قيلكم للمؤمنين: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه، إلا في ضلال مبين، عن أن قيلكم ذلك لهم ضلال.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

{أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} فهذا حجة البخلاء في البخل، وهي حجة باطلة؛ لأن الله تعالى منع الدنيا من الفقراء لا بخلا ولكن ابتلاء، وأمر الأغنياء بالإنفاق لا بحكم الحاجة إلى أموالهم لكن ابتلاء شكرهم.

{إن أنتم إلا في ضلال مبين} أي: في خطأ بين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الضمير في قوله: {لهم} لقريش، وسبب الآية أن الكفار لما أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم من المستضعفين قطعوا عنهم نفقاتهم وجميع صلاتهم، وكان الأمر بمكة أولاً فيه بعض الاتصال في وقت نزول آيات الموادعة، فندب أولئك المؤمنون قرابتهم من الكفار إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم مما رزقهم الله، فقالوا عند ذلك {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} قال الرماني: ونسوا ما يجب من التعاطف وتآلف المحقين.

وقالت فرقة: بل سبب الآية أن قريشاً شحت بسبب أزمة على المساكين جميعاً، مؤمن وغير مؤمن وندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى النفقة على المساكين فقالوا هذا القول.

وقولهم يحتمل معنيين من التأويل: أحدهما يخرج على اختيارات لجهال العرب، فقد روي أن أعرابياً كان يرعى إبله فجعل السمان في الخصب والمهازيل في المكان الجدب فقيل له في ذلك فقال: أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله، فيخرج قول قريش على هذا المعنى كأنهم رأوا الإمساك عمن أمسك الله عنه رزقه.

والتأويل الثاني أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمد صلى الله عليه وسلم إن ثم إلهاً هو الرزاق؛ فكأنهم قالوا لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم أي نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت أطعمه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فيه لطائف:

الأولى: خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة، فلم يأتوا بشيء منه، وعباد الله المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى؛ إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب وهو أدنى ما يكون من الاتقاء، وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ومتقى العذاب لا يكون إلا للبعيد، فهم لم يتقوا معصية الله ولم يتقوا عذاب الله، والمخلصون اتقوا الله واجتنبوا مخالفته سواء كان يعقابهم عليه أو لا يعاقبهم.

وأما في الشفقة فقيل لهم: {أنفقوا مما} أي بعض ما هو لله في أيديكم فلم ينفقوا، والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم، بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد الله ودفع الضرر عنهم.

الثانية: كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم راجعة إلا إليهم فإن الله مستغن عن تعظيمهم كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم، فإن من لا يرزقه المتمول لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه، لكن السعيد من قدر الله إيصال الرزق على يده إلى غيره.

الثالثة: قوله: {مما رزقكم} إشارة إلى أمرين:

أحدهما: أن البخل به في غاية القبح فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير.

وثانيهما: أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن الله رزقكم، فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانيا كما رزقكم أولا. وفيه مسائل أيضا:

المسألة الأولى: عند قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا} حذف الجواب، وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال: وإذا قيل لهم أنفقوا قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه لكان كافيا، فما الفائدة في قوله تعالى: {قال الذين كفروا للذين ءآمنوا}؟ نقول الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به، وإنما أرادوا بذلك القول ردا على المؤمنين فقالوا نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء، ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة، وأنتم تقولون إن إلهكم يرزق من يشاء، فلم تقولون لنا أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام. قال تعالى عنهم: {قال الذين كفروا للذين آمنوا} إشارة إلى الرد، وأما في قولهم: {اتقوا ما بين أيديكم} فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض الله عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به.

المسألة الثانية: ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا أننفق على من لو يشاء الله رزقه؛ وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله: {وإذا قيل لهم أنفقوا} فكان جوابهم بأن يقولوا أننفق فلم قالوا: {أنطعم}؟ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره؛ لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم، وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيدا دينارا يقول لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه دينارا ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا.

{إن أنتم إلا في ضلال مبين} إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام، وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد، واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية ومعنوية.

البحث الثاني: قد ذكرنا أن قوله: {إن أنتم إلا} يفيد ما لا يفيد قوله: أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال.

البحث الثالث: وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال.

البحث الرابع: قد ذكرنا أن قوله: {في ضلال} يفيد كونهم مغمورين فيه غائصين، وقوله في مواضع {على بينة} و {على هدى} إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ""إنما يرحم الله من عباده الرحماء.

" وكان الإنفاق خلق المؤمنين، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة، فلا يخافون ما يجوز وقوعه من العذاب، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب.

{أنفقوا} أي على من لا شيء له، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع خلقه الذين هم عياله، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل ببعضه فقال: {مما رزقكم} وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه {أطعمه} أي: لكنا ننظره لا يشاء ذلك، فإنه لم يطعمهم لما نرى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه، فتركوا التأدب مع الأمر، وأظهروا التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها.

{أنتم إلا في ضلال} أي: محيط بكم {مبين} أي:في غاية الظهور.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أي: من الرزق الذي منَّ به اللّه عليكم، ولو شاء لسلبكم إياه.

{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا} معارضين للحق، محتجين بالمشيئة: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ} أيها المؤمنون.

{إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} حيث تأمروننا بذلك. وهذا مما يدل على جهلهم العظيم، أو تجاهلهم الوخيم، فإن المشيئة، ليست حجة لعاص أبدا، فإنه وإن كان ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، فإنه تعالى مكَّن العباد، وأعطاهم من القوة ما يقدرون على فعل الأمر واجتناب النهي، فإذا تركوا ما أمروا به، كان ذلك اختيارا منهم، لا جبرا لهم ولا قهرا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إذا دعوا إلى إنفاق شيء من مالهم لإطعام الفقراء: قالوا ساخرين متعنتين: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟).. وتطاولوا على من يدعونهم إلى البر والإنفاق قائلين: (إن أنتم إلا في ضلال مبين)! وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد. فالله هو مطعم الجميع، وهو رازق الجميع. وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئاً، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلاً. ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد؛ وفلاحة هذه الأرض؛ وصناعة خاماتها؛ ونقل خيراتها من مكان إلى مكان، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان. كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض. وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها! وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ.. في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة، ماضية وحاضرة ومستقبلة.. في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد.. ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع، بينما هو ناشىء أصلاً من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء. فقد جعله الإسلام زكاة. وجعل في الزكاة معنى الطهارة. وجعلها كذلك عبادة. وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال. فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟).. وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم: (إن أنتم إلا في ضلال مبين).. إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله، وإدراك حركة الحياة، وضخامة هذه الحركة، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق. والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف. ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا لون آخر من عنادهم وقَلْبهم للحقائق، فإذا قال لهم الناصح {أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} يعني: مما استخلفكم فيه لا مما عندكم، وملَكه لكم يكون الرد {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} هكذا يقلب الكافر حقائق الأمور ويتبجحون بالباطل.

{أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} يعني: لسنا بخلاء بل نحب أنْ ننفق، وأن ننفذ مرادات الله في خَلْقه، والله يريد أن يمنع الرزق عن هؤلاء، فكيف نرزقهم نحن، إننا لو أنفقنا عليهم لكنا معاندين مخالفين لمراد الله، ولو شاء الله لأطعمهم.

ولم يقفوا بعنادهم عند هذا الحدِّ، إنما يتمادَوْنَ فيتهمون المؤمنين بالضلال المبين {إِنْ أَنتُمْ} يعني: ما أنتم {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} سبحان الله، لماذا؟ لأنكم تعارضون مراد الله، وتُطعمون مَنْ حرمه الله وتجيرون عليه.

نعم، الحق سبحانه رب الجميع، ويرزق الجميع، ويطعمنا ويسقينا، لكنه سبحانه يريد أنْ يشهد عطف عباده على عباده لتسير حركتهم في الحياة بلا غِلٍّ، وبلا حقد، فالفقير حين ينال من خير الغنيِّ لا يحقد عليه ولا يحسده، بل يتمنى دوام النعمة عنده، ثم إن الغِنَى والفقر عَرَض ينتقل ويزول، والواقع يشهد بذلك.